الحضارة المصريةحكايات

الدولة الطولونية وعلاقتها بالخلافة العباسية

لمن يتابعنا للمرة الأولى، تحدثنا في سلسلة مقالات مميزة عن الحضارة المصرية من بدايتها بشكل مفصل حتى وصلنا إلى  الدولة الاخشيدية واليوم موعدنا مع الدولة الطولونية.

منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة ونفتش عن الحضارة المصرية ونسرد ومضات تاريخية عن تاريخ الاسر المصرية القديمة.

فتحدثنا عن ومضات تاريخية للحضارة المصرية منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن ننزل إلى الأعماق.

وعرفنا معنى كلمة مصر وسبب تسميتها ومعنى المصطلحات المصرية القديمة، وكيف قرر المصري القديم أن ينشأ امبراطورية حقيقية تديرها حكومة مركزية، وأن يأسس جيشًا قويًا يردع بقوته كل طامع وغاصب.

كما تحدثنا عن تفاصيل الأسر المصرية حتى العصر الروماني وتحدثنا عن الدولة الاخشيدية. اليوم موعدنا مع الدولة الطولونية ونسرد حكايتها في طي السطور التالية:

الدولة الطولونية

من هي الدولة الطولونية؟

جاء قيام الدولة الطولونيَّة كإحدى النتائج الحتميَّة لِتنامي الفكر الشُعُوبي وظاهرة استقلال الوُلاة بِولاياتهم عن الدولة العبَّاسيَّة. وكان مُؤسس هذه السُلالة، وهو أحمد بن طولون، قد عُيِّن نائبًا على مصر من قِبل الوالي بايكباك التُركي في سنة 254هـ المُوافقة لِسنة 868م.
ومُنذُ أن قدم ابن طولون مصر، عمل على ترسيخ حُكمه فيها. وكان يتخلَّص من سُلطة الوالي الأصيل بِإغرائه بالمال والهدايا التي كان يُرسلها إليه، وعندما طلب إليه الخليفة أبو إسحٰق مُحمَّد المُهتدي بالله أن يتولَّى إخضاع عامل فلسطين المُتمرِّد على الدولة، سنحت لهُ الفُرصة التي كان ينتظرُها، فقد أنشأ ابن طولون جيشًا كبيرًا من المماليك التُرك والرُّوم والزُنوج ودعم حُكمه به. وقد أخذ من الجُند والنَّاس البيعة لِنفسه على أن يُعادوا من عاداه ويُوالوا من والاه.
بِفضل هذا الجيش استطاع أن يقضي على الفتن الداخليَّة التي قامت ضدَّه، واستطاع أن يرفض طلب وليُ عهد الخليفة أبا أحمدٍ طلحة بن جعفر المُوفَّق بالله الذي كان يستعجله إرسال المال لِيستعين به على القضاء على ثورة الزُنج بالبصرة، ومُنذُ ذلك الوقت أصبحت دولة ابن طولون مُستقلَّة سياسيًا عن الخِلافة العبَّاسيَّة.
عندما طلب الخليفة إلى ابن طولون أن يتخلَّى عن منصبه إلى «أماجور» والي الشَّام، رفض ابن طولون ذلك، وتوجَّه إلى الشَّام وضمَّها إلى مصر.

الدولة الطولونية

متى تأسست الدولة الطولونية؟

عمد ابن طولون بعد استقلاله بِالديار المصريَّة والشَّاميَّة على إصلاح أحوالها وتعميرها، ولم ينفصل دينيَّا عن الخِلافة، كونها مثَّلت في نظره وفي نظر جمهور المُسلمين ضرورة دينيَّة لاستمرار الوحدة الإسلاميَّة، ولِأنَّها تُشكِّلُ رمزًا يربط أجزاء العالم الإسلامي المُختلفة، فحرص على أن يستمرَّ الدُعاء للخليفة العبَّاسي على منابر المساجد في مصر والشَّام، واعترف بسُلطته الروحيَّة والدينيَّة.
وبعد وفاة ابن طولون جاء ابنه خُمارويه الذي لم تُفلح دولة الخِلافة في أن تُزيح حُكمه عن الشَّام، فاضطرَّت إلى أن تعقد معهُ مُعاهدة صُلح ضمنت للدولة الطولونيَّة حُكم مصر والشَّام مُقابل جزية تؤديها. وبعد خُمارويه الذي مات اغتيالًا في دمشق، تولَّى الحُكم ولداه أبو العساكر جيش ثُمَّ هٰرون.
ولم يكن هٰرون قادرًا على مُقاومة هجمات القرامطة الذين أخذوا يُغيرون على المُدن الشَّاميَّة، فاضطرَّ الخليفة أبو أحمد علي المُكتفي بِالله إلى أن يُنقذ دمشق من القرامطة بِجُيوشٍ يُرسلها من العراق.
وكان انتصار المُكتفي على القرامطة تجربةً ناجحةً دفعتهُ إلى أن يتخلَّص من الحُكم الطولوني العاجز، فوجَّه قُوَّاته البحريَّة والبريَّة إلى مصر، فدخلت الفسطاط وأزالت الحُكم الطولوني الذي دام 37 سنة، وأعادت مصر إلى كنف الدولة العبَّاسيَّة.

الدولة الطولونية

وحدث في عهد عيسى النوشري أيضًا أن لجأ أبو مضر زيادة الله الأغلبي، آخر الحُكَّام الأغالبة، إلى مصر هربًا من الفاطميين بعد أن فشل في وقف التمدُّد الشيعي باتجاه بلاده، فنزل أولًا بِالجيزة، ولمَّا أراد الدُخُول إلى الفسطاط منعهُ عيسى النوشري، ثُمَّ سمح لهُ شرط أن يدخُلها وحده من غير جُند.

تُوفي عيسى النوشري في 26 شعبان 297هـ المُوافق فيه 10 أيَّار (مايو) 910م، وعُيِّن بعده أبو منصور تكين في 2 ذي الحجَّة 297هـ المُوافق فيه 12 آب (أغسطس) 910م، وفي تلك الفترة كانت شوكة الفاطميين بِالمغرب تقوى شيئًا فشيئًا، وأبدى عُبيد الله المهدي عزم الفاطميين ورغبتهم الأكيدة في سحق العبَّاسيين وتزعُّم العالم الإسلامي روحيًا وسياسيًا.

ولمَّا كان الوُصول إلى المشرق وعاصمة الخِلافة بغداد يمُر بِمصر الواقعة تحت السيطرة العبَّاسيَّة، قرَّر عُبيد الله المهدي ضرب الدولة العبَّاسيَّة في هذه الولاية والاستيلاء عليها كخُطوةٍ أولى.

وفي سنة 301هـ المُوافقة لِسنة 914م جهَّز عُبيد الله المهدي جيشًا جرَّارًا عهد بِقيادته إلى وليّ عهده أبي القاسم مُحمَّد القائم بِأمر الله ودفعهُ باتجاه مصر لِلسيطرة عليها. سار القائم إلى إلى مصر يوم الخميس 15 ذي الحجَّة 301هـ المُوافق فيه 13 تمُّوز (يوليو) 914م وأسرع قائد مُقدمة الجيش حباسة بن يُوسُف بِمُغادرة برقة ونجح في دُخول الإسكندريَّة في 8 مُحرَّم 302هـ المُوافق فيه 3 آب (أغسطس) 914م.

وبعد وُصُول القائم إلى الإسكندريَّة، سار بِجيشه إلى الفسطاط حيثُ اصطدم بِقُوَّات الوالي العبَّاسي على مقرُبةٍ من الجيزة، فاضطرَّ تحت ضغط القتال أن يتراجع إلى الإسكندريَّة مُجددًا. وفي الوقت الذي كان فيه القائم يستريح من عناء القِتال في الإسكندريَّة.

أرسل الخليفة العبَّاسي أبو الفضل جعفر المُقتدر بِالله قُوَّةً عسكريَّةً إلى مصر بِقيادة مُؤنس الخادم، وهو من كبار القادة العبَّاسيين، وممَّا لا شكَّ فيه بِأنَّ القائم لم يكن قادرًا على مُواجهة الجيش العبَّاسي وجيش ولاية مصر معًا، وكذلك انتفاضة الأهالي ضدَّه، فاضطرَّ إلى الانسحاب إلى إفريقية.

تولَّى بعد ذلك حُكم مصر الوالي زكَّا الأعور في 12 صفر 303هـ المُوافق فيه 27 آب (أغسطس) 915م، فطارد أنصار الفاطميين الذين كاتبوا عُبيد الله المهدي وحثوه على غزو مصر، فقبض على كثيرٍ منهم، فسجن فئة وأعدم فئة فعظُمت هيبته في عُيُون الناس، وعمل على إقرار الأمن وتحصين الإسكندريَّة تحسُبًا لِأي هُجومٍ فاطميٍّ جديد.

لكنَّ العلاقة بين الوالي الجديد والسُكَّان ساءت بِسبب تبنّيه رأي المُعتزلة بِشأن خلق القُرآن، كما انقلب عليه الجُند بِسبب تأخُره في دفع رواتبهم. وفي تلك الفترة عاود الفاطميين الكرَّة على مصر، يُرافقهم هذه المرَّة أُسطولٌ بحريّ، فتمكنوا من دُخول الإسكندريَّة مُجددًا، وأخذ الوالي العبَّاسي يعمل على التصدي لهم، ولكنَّ عصيان الجُنود لِأوامره ورفضهم التعاون معه في الدفاع عن الديار المصريَّة جعلهُ يخرج بِمجموعةٍ صغيرةٍ من الجُنود إلى مُعسكره في الجيزة ولكنَّهُ أُصيب بِوعكةٍ صحيَّةٍ مُفاجئة وتوفى على إثرها.

وعُيِّن مرَّةً أُخرى أبو منصور تكين على ولاية مصر لِمُواصلة الدفاع عنها ضد هجمات الفاطميين، وحفر خندقًا بِمعُسكر الجيزة بِخلاف الخندق الذي حفره الوالي السَّابق، وجاءت قُوَّات إضافيَّة من بغداد لِلدفاع عن السواحل المصريَّة وبِالفعل تمَّت هزيمة الفاطميين والرُجوع عن نوياهم خوفًا من الدُخول في معركةٍ نتائجها ليست في صالح الدولة الفاطميَّة.

وما كاد تكين يرتاح من عناء الضغط الفاطمي حتَّى أقدم مُؤنس الخادم على عزله عن ولاية مصر، ثُمَّ أعاد تعيينه بعد ثلاثة أيَّام بناءً على طلبات المصريين، ثُمَّ أعاد عزله مرَّة أُخرى بعد أربعة أيَّام من إعادته وأبعده عن مصر، وعيَّن بدلًا منه هلال بن بدر ثُمَّ أحمد بن كيغلغ، ثُمَّ أُعيد تولية أبو منصور تكين لِلمرَّة الرابعة، فبقي قائمًا على أُمور مصر إلى أن تُوفي في 16 ربيع الأوَّل 321هـ المُوافق فيه 16 آذار (مارس) 933م.

شهدت مصر بعد وفاة تكين صراعًا حادًا على السُلطة بين الوُلاة والجيش العبَّاسي المُرابط في الولاية والقادة الماذرائيين وأنصارهم الذين كانت لهم سُلطة في البلاد مُنذ العهد الطولوني، فساد الاضطراب الداخلي وساءت الإدارة، ولم ترجع الأُمور لِنصابها إلَّا بِتعيين مُحمَّد بن طُغج الإخشيدي واليًا بعد بضعة شُهُور.

استمرَّ في تجهيز نفسه وإعداد قُوَّاته العسكريَّة بِجمع الأعوان والأنصار حتَّى كثُر رجاله، وعجز عن تموينهم ودفع مُرتباتهم، لِذلك راح يُصادر الأموال لِلإنفاق عليهم وبِخاصَّةٍ أموال الأثرياء واتَّبع مُختلف الوسائل في هذا السبيل. وبعد أن استكمل مُحمَّد بن طُغج استعداداته العسكريَّة، وأنس من نفسه القُوَّة، التفت إلى التمدُّد باتجاه مصر، فراح يُراقب تحرُّكات تكين ويترصَّد أخباره، وهو مُستعد لانتهاز أوَّل فُرصة لِلوُثوب إليها.

لم يترُك مُحمَّد بن طُغج وسيلةً لِلحُصُول على ولاية مصر، فنهج أُسلُوب أحمد بن طولون في الاعتماد على الأنصار وشراء الناس، وأرسل كاتبه علي بن مُحمَّد بن كلا إلى الخليفة أبو منصور مُحمَّد القاهر بِالله يلتمس منه ولاية هذه الديار بعد وفاة تكين في سنة 321هـ المُوافقة لِسنة 933م، لكنَّ الخليفة لم يُجبه، وقلَّد مُحمَّد بن تكين ولاية مصر خلفًا لِوالده، ولكنَّهُ لم ييأس وتابع مُحاولاته في ظل تردّي الأوضاع الداخليَّة في هذه الولاية وتغيُّر الوُلاة بِسُرعةٍ لافتة.

الدولة الطولونية

ويبدو أنَّ الخليفة بدَّل رأيه بعد ذلك، فعيَّنهُ واليًا على مصر في 7 رمضان المُوافق فيه 31 آب (أغسطس)، غير أنَّهُ لم يتمكَّن من الذهاب إليها بِسبب اضطراب أوضاعها الداخليَّة، واضطراب الأوضاع في بغداد نفسها بعد خلع الخليفة القاهر بالله، وانتهاج خلفه أبو العبَّاس مُحمَّد الراضي بِالله سياسة أسلافه في الإيقاع بين السُلطات الحاكمة في مصر.

فكتب إلى الوالي السَّابق أحمد بن كيغلغ يُقرُّه على ولاية مصر في حين أرسل إلى القائد مُحمَّد الماذرائي يُذكِّره بِأنَّ الأمر له يُقلِّد من يشاء ويصرف من يشاء. ونتيجةً لِلصراع بين مُحمَّد بن تكين، الذي قدم إلى مصر من فلسطين في شهر ربيع الأوَّل 322هـ المُوافق فيه شُباط (فبراير) 934م مُدعيًا أنَّهُ واليها من قِبل الخليفة، وبين الوالي أحمد بن كيغلغ والماذرائيين؛ اضطربت الأُمور أكثر فأكثر، وانقسمت طوائفُ الجُند.

دفع هذا الأمر الخليفة الراضي بِالله إلى إرسال الوزير الفضل بن جعفر إلى مصر لاستطلاع أوضاعها وتدبير أُمورها، ومنحهُ صلاحيَّات مُطلقة في التصرُّف، بناءً على طلبه، فقلَّد هذا مُحمَّد بن طُغج ولاية مصر في سنة 323هـ المُوافقة لِسنة 935م، وضُمَّت إليه الشَّام والحجاز، ويبدو أنَّ لِذلك علاقةً بِما جرى من التقارب الأُسري.

فقد زوَّج مُحمَّد بن طُغج ابنته من الفضل بن جعفر، فاستغلَّ هذا الزواج لِلحُصول على ولاية مصر، وقد وافق الخليفة الراضي بِالله بعد ذلك على هذا التعيين بعد أن أصبح أمرًا واقعًا وعزل أحمد بن كيغلغ. والواقع أنَّ الخِلافة كانت مُترددة في حسم الموقف في الشَّام ومصر خشيةً من تكرار تجربة الطولونيين.

لِذلك جاءت قراراتها مُتسرِّعة وأوامرها مُرتبكة تنُمُّ عن الضُعف الذي حلَّ بها، وقد استغلَّ مُحمَّد بن طُغج ذلك الارتباك بِذكاء واعتمد على الصلاحيَّات الواسعة المُعطاة لِلوزير العبَّاسي لِتنفيذ رغبته، مُدركًا أنها لن تتحقق وتستقر إلَّا بِجُهوده الشخصيَّة وقُوَّته العسكريَّة.

نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الدولة الطولونية، ونستكمل الحديث في المقال القادم ونتناول دخول الاخشيدين مصر. دمتم في أمان الله.

كتبت: مروة مصطفى

آمال أحمد

يأسرني عالم الترجمة وقضيت حياتي أحلم بأن أكون جزء من هذا العالم الساحر الذي اطلقت لنفسي فيه العنان لأرفرف بأجنحتي في سماء كل مجال، وأنقل للقارئ أفكار وأحداث من كل مكان على أرض المعمورة مع مراعاة أفكاره وعاداته وثقافته بطبيعة الحال، وفي مجال الترجمة الصحفية وجدت نفسي العاشقة للتغيير والمتوقة للإبداع والتميز.. من هنا سأعمل جاهدة على تلبية كل احتياجاتك ومساعدتك على تربية ابنائك وظهورك بالشكل الذي يليق بك ومتابعة الأخبار التي تهمك واتمنى أن أكون عند حسن ظنك.
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!