عالم الطب الشرعي أو العلم الشرعي مليء بالأسرار والغموض والرعب في بعض الأحيان. الطبيب الشرعي لديه مهمة صعبة يلفها الغموض وتدثرها الحيرة، وينبغي عليه فك طلاسم جريمة مع جثة خرساء جامدة، مغمضة العينين رخوة الجسد، يسمعها بقلبه تقول عبارة واحدة: “ساعدني على أخذ حقي مِن مَن قتلني”!.
أما في حالة مات الشخص ولم يُعرف السبب، وشكت عائلته في الأمر، هنا يتدخل الطبيب الشرعي ليطمئن قلوبهم ويثلج صدورهم، في حال كانت الوفاة طبيعية نتيجة مرض مفاجئ أو اختناق بسبب السموم الداخلية كاليوريا والأمونيا. أما في حال كانت الوفاة بسبب جريمة فالطبيب الشرعي هو الحارس الأمين الذي يدلهم على سبب الوفاة وكيف نفذت الجريمة، وهنا تتخذ المسألة منحى أخر يستوجب أخذ حق الضحية.
إذن، نحن أمام لغز كبير على الطبيب الشرعي حله وفهم رموزه، وهو الجريمة وغالبا ما تكون القتل، سواء بالطعن أو السم والخنق وخلافه. لذلك علينا أولا معرفة ماهية الطب الشرعي قبل كل شيء.
ما هو الطب الشرعي؟
فهم الطب الشرعي يمثل تقاطعًا بين عالمين مختلفين، الطب والقانون، حيث يشكل هذا الاختصاص جسرًا أساسيًا يربط بينهما. يعمل الطب الشرعي كجسر تحليلي وتقني لتزويد القضاء بالأدلة العلمية اللازمة لفهم وتقدير الحقيقة في القضايا القانونية.
يُعنى الخبراء في هذا المجال بتحليل الأدلة الجسدية والطبية، مثل تحليل الحمض النووي والأشعة وتقديم تقارير موثوقة تساهم في تحديد الهوية، وكشف الجرائم، وتقديم التقارير الطبية اللازمة للقضاء. هذا الاختصاص يلعب دورًا بارزًا في تعزيز العدالة وضمان الشفافية في العمل القانوني، ويسهم في فهم أعمق للتفاعل المعقد بين الطب والقانون، مما يسهم في تحقيق العدالة في مجتمعنا.
هذا على المستوى القانوني، أما على المستوى المهني فلكل جريمة لها نوع من الطب الشرعي مخصص لها، فالميت بالسم غير الميت بالطلق الناري، والمنتحر غير المقتول وهكذا يعد كشف أسرار الجريمة عالم مليء بالغموض والريبة والرعب كذلك. حيث أن لكل جانب من الجريمة علم قادر على كشفه وتفسيره.
بدايات الطب الشرعي
في عام 1910، عندما أسس العالم الفرنسي إدموند لوكارد أول معمل للجريمة، ووضع قاعدة مبدأ التناقل أو تبادل الأدلة، بمعنى كل شخص يدخل مسرح الجريمة سيترك وراءه شيء يدل عليه، أو يأخذ من مسرح الجريمة شيء يقودنا إليه، لا سيما في الجرائم التي بها اتصال جسدي مثل القتل او الاغتصاب، فهناك تبادل بين الضحية والمجرم، وبذلك ينطلق التحقيق من أدلة مسرح الجريمة.
في الماضي السحيق عقدت المدن الأوربية المتحدثة بالألمانية العديد من محاضرات الطب الشرعي في فرايبورغ في منتصف القرن الثامن عشر، وفي فيينا في عام 1804. بذل العلماء أوغست أمبرواز تارديو، يوهان لودفيج كاسبر وكارل ليمان الكثير من الجهود لتطوير الطب الشرعي.
في عام 1959، تم الإقرار بالطب الشرعي لأول مره في الولايات المتحدة وذلك بإصدار البورد الأمريكي في الطب الشرعي. بينما لم يتم الإقرار بالطب الشرعي في كندا إلا في عام 2003، ويتم العمل حالياً على برنامج تدريب وزمالة في الطب الشرعي تحت رعاية الكلية الملكية للأطباء والجراحين في كندا.
أدلة مسرح الجريمة
يعتبر مسرح الجريمة هو مفصل القضية فكل شيء له دلالة مهما كان صغيرا، ويأتي الطبيب الشرعي ويفحص كل شيء فحصا دقيقا، بدءً من ملابس الضحية مرورا بشعر وألياف قد سقطت من ملابس المجرم. وتبدأ رحلة تحليل بقع الدم وتحلل بما يعرف بسلوك الدم، وهو موضوع يطول شرحه لكن من خلال هذا السلوك يستطيع الطبيب الشرعي معرفة أداة الضحية سواء ألة حادة أو ضربة قوية في الرأس وهكذا.
رحلة الموت وتحدث الجثث
دعونا بداية نتفق على أن بطل هذا المقال هو الميت أو بالأحرى الجثة، فقد نقلوه إلى المشرحة كي تتم له عملية التشريح لمعرفة سبب الوفاة أو بمعنى أخر سبب القتل ومعرفة هوية القاتل وكيف نفذت الجريمة وما إلى ذلك. وفي حالات أخرى لمعرفة السبب الحقيقي وراء موت ضحايا الحوادث.
شاهد عيان على تحدث الجثث
من كتاب “والموتى يتحدثون ايضا» للطبيب محمد الشيخ بعنوان «وللجثث رأى آخر»، يتحدث الطبيب الشرعي كشاهد عيان على اللحظات الأخيرة قبل الدفن وصورها بجدارة من النعوش والأحزان وصرخات ألم النهاية الممزوجة ببداية معرفة الحقيقة.
المغسل وحديث الجثث
كثيرا ما يخرج علينا أحد المغسلين، ليكشف عن بعض الأسرار التي يبوح بها الميت أثناء عملية الغسل، فيظهر وجه الميت كالبدر ليلة تمامه، كل شيء ميسر له وكأنه يركض نحو مثواه الأخير بكل فوته، وجهه مرتاح تعلوه ابتسامة الرضا.
في المقابل، هناك ميت أخر يعلو وجهه الغضب، الوجه أسود اللون تفوح منه رائحة الموت، كل شيء يسير ببطئ وكأنه لا يريد أن يذهب لمثواه الأخير ويوارى الثرى. وبين هذا وذاك يستطيع المغسل أن يعرف تاريخ حياة هذه الجثة وكيف عاشت وهل ذهبت إلى بارئها محبة أم كارهة، أو بلغة المغسلين “ذنوبه ثقيلة”. وهذا نوع أخر من حديث الموتى دون كلام فقط تحكي عن حياتها بعلامات ليس لها سلطان عليها.