لمن يتابعنا للمرة الأولى، نلقي الضوء على ومضات تاريخية حول تاريخ الحضارة المصرية القديمة، لنعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بها ونفتش عن كنوزها.
منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة ونفتش عن الحضارة المصرية ونسرد ومضات تاريخية عن تاريخ الاسر المصرية القديمة.
فتحدثنا عن ومضات تاريخية للحضارة المصرية منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن ننزل إلى الأعماق.
وعرفنا معنى كلمة مصر وسبب تسميتها ومعنى المصطلحات المصرية القديمة، وكيف قرر المصري القديم أن ينشأ امبراطورية حقيقية تديرها حكومة مركزية، وأن يأسس جيشًا قويًا يردع بقوته كل طامع وغاصب.
كما تحدثنا عن تفاصيل الأسر المصرية حتى العصر الروماني و نستكمل اليوم الحديث ونلقي الضوء على ومضات تاريخية عن العصر الروماني.
في سلسلة المقالات السابقة وهذه المقالات من ومضات تاريخية مضيئة حول الأسر المصرية وكما اتفقنا في السابق سنطلق على الملوك المصريين لقب الملوك لكن غير المصريين سنلقبهم بالفراعنة ما عدا السهو والخطأ
نستكمل معا تاريخ الإمبراطورية البيزنطية بعد الانتهاء من العصر الروماني. وقبل الحديث عن هذا العصر الذاخر بالأحداث والتقلبات وجب علينا التنوية أننا سنتناول الحديث عنه في حلقات متعددة، وذلك لتعثر الحديث عنه في مقال واحد.
ومضات تاريخية والإمبراطورية البيزنطية
اعتمد الإمبراطور على إدارة توصف أحيانًا بأنها معقّدة من أجل ممارسة الحكم، لكنها مع ذلك كانت فعالة وقادرة على التكيف مع متغيّرات العالم. على عكس الدول القروسطيّة في أوروبا الغربية، التي تميزت غالبًا بإداراتها الصغيرة وأنظمتها اللامركزية القوية، استندت الإمبراطورية البيزنطية إلى مركزية قوية للسلطة، تضمنُها إدارة منظمة للغاية.
اعتمد البيزنطيون هيكلًا إداريًا منظمًا حرصًا على ضمان تنظيم شؤون الدولة بأكبر قدر ممكن من الدقة، وجعل ذلك النظامَ البيزنطيَّ أحد أكثر الأنظمة الإدارية كفاءةً في عصره.
في القرون الأولى لانقسام الإمبراطورية الرومانية إلى كيانين أفسح دوام مؤسساتها المجال تدريجياً لظهور نموذج بيزنطي أكثر خصوصية. تبنّت الإمبراطورية البيزنطية بدايةً المبادئ الإدارية الرومانية الرئيسية مثل الفصل بين الإدارات المدنية والعسكرية. كانت الولايات الإمبراطورية هي التقسيمات المدنية الكُبرى في الإمبراطورية، واحتلّ القائد البرايتوري مكانةً أساسيةً في حكومات الأباطرة الأوائل. وكان يعمل إلى جانبه رئيس المكاتب الذي تولى تحديدًا مسؤولية الوزارات بالإضافة إلى قيادة أفواج العاصمة.
الإدارة المركزية للإمبراطورية
تميزت الإدارة المركزية بتعقيدها وبتعدد المكاتب والوظائف وبعدم وجود تنظيم منطقي حقيقي في بعض الأحيان، ومن الأمثلة على ذلك الازدواجية بين حاكم الولاية ورئيس المكاتب، بالإضافة للمجال المالي الذي جسّد هذه المنظومة المتشابكة حيث كان على محافظ الولاية -الذي يديرُ أكبرَ جزءٍ من الأموال العامة- أن يتعامل مع كونت المخازن المقدسة المسؤول عن جوانب مالية معينة مثل فرض الضرائب والرسوم الجمركية وإدارة المناجم والمصانع.
ومع كونت المال الخاص المسؤول عن إدارة ممتلكات الإمبراطور المنفصلة عن الممتلكات العامة. اختفت كل هذه الوظائف في مطلع القرن السابع لكن دون توحيد الإدارة المالية تحت سلطة واحدة حيث أصبح الساكيلاريوس مسؤولًا عن إدارة ممتلكات الإمبراطور، واللغثيط تو جينيكو مسؤولًا عن إدارة الضرائب.
استمرّ لاحقًا التمييز بين الممتلكات العامة والممتلكات الخاصة بالإمبراطور، وكان أي شكل من أشكال جمع المناصب وسيلةً لضمان السيطرة على المكاتب الإدارية المختلفة فيما بينها.
على نحو واسع أصبحت الإدارة المركزية تعتمد على الوزارات التي أخذت اسم سِكريتا (sekreta) منذ القرن السابع، وعُرف رئيس كل وزارة باللغثيط. كان من أشهر المناصب الوزارية اللغثيط تو درومو، وهو مسؤول عن مكتب البريد والبعثات الدبلوماسية والشؤون الخارجية، واللغثيط تو جينيكو المسؤول عن الشؤون المالية والضرائب والإيرادات، وكذلك اللغثيط تو سترايتيريكو المسؤول عن الجيش البيزنطي.
كان الرئيس الفعلي للإدارة المركزية هو أحد كبار مستشاري الإمبراطور ويحمل لقب بروتاسيكريتيس حيث كان يحتل مكانًا رفيعًا في البيروقراطية البيزنطية وهو المشرف على الوزارات.
لكن بمرور الزمن تغير ذلك المنصب وأصبح مستشار آخر يحمل لقب ميزون بمثابة رئيس للوزراء ومساعد رئيسي للإمبراطور. من بين المسؤولين الكبار أيضًا كان حارس المحبرة كانيكليوس، حيث شغل موقعًا مهمًا بصفته صاحب الوصاية على الحبر الإمبراطوري الذي استُخدمَ في صياغة المراسيم الإمبراطورية.
النطاق الإقليمي
ضمن ومضات تاريخية شهدت الإمبراطورية البيزنطية تطورًا كبيرًا في نطاقها الإقليمي على مر القرون. في قرونها الأولى احتفظت بالولايات والمقاطعات والأبرشيات التي ورثتها من الإمبراطورية الرومانية.
فُصلت السلطات المدنية عن العسكرية في الأقاليم وفق النظام الإداري الذي أسسه قسطنطين العظيم وديوكلتيانوس. أجرى جستينيان الأول (حكم 527-565) إصلاحًا جذريًا على ذلك النظام وألغى الفصل الصارم بين السلطات المدنية والعسكرية.
خضعت الأراضي التي فُتحت حديثًا في شمال إفريقيا وإيطاليا لسلطة «إكسارخوس» وهو حاكم يتمتع بصلاحيات مدنية وعسكرية. ابتداءً من عهد الإمبراطور هرقل (حكم 610-641) عدّل الأباطرة تدريجياً النظام الإقليمي وأنشؤوا البنود التي أصبحت الوحدات الإدارية الرئيسية.
تشكلت البنود بعد انسحاب البيزنطيين إلى الأناضول إثرَ الفتوحات الإسلامية، واستند تشكيلها إلى معسكرات الجيوش الميدانية البيزنطية وأخذت أسماءها من وحدات تلك الجيوش مثل أوبوسكيون.
كان القائد العسكري لكل بند يُعيّن مباشرةً من الإمبراطور، ويمارس صلاحيات مدنية وعسكرية بدون أي فصل. أصبحت البنود سريعًا أعمدة المقاومة البيزنطية ضد الغزوات والغارات التي واجهتها الإمبراطورية، فكان يُمكن حشد الجيوش الإقليمية في أي وقت للدفاع عن الإمبراطورية ضد المهاجمين.
أُنشئت هذه الهيكلية وتطورت بمرور الزمن. لقد قُسّمت البنود إلى وحدات أصغر لمنعها من أن تصبح مركزًا للثورات المحلية التي قادها حكام أقوياء للغاية، فلكل عصر ما يميزة من ومضات تاريخية خاصة به.
بالإضافة لذلك فقدت جيوش المقاطعات فعاليتها مع تراجع الاعتماد على الجنود الفلاحين وعودة الجيوش الميدانية من أجل حماية الحدود التي تعرضت للهجوم باستمرار.
تجسّد إضعاف الدور العسكري للبنود عبر استبدال القادة العسكريين «الإستراتيجوس» بحُكّام مدنيين وقضائيين. ظهرت عدة تقسيمات إقليمية أخرى مثل كتبانة إيطاليا والدوقيات، جمعت عدة بنود وأكدت الطابع الاستراتيجي للمناطق الحدودية.
تأثير أزمات القرن الحادي عشر
وجهت أزمات القرن الحادي عشر ضربة قاسية للتنظيم الإقليمي، فقد أدى فقدان إيطاليا والأناضول إلى سقوط عدة بنود. ومع ذلك فلم تختفِ تمامًا، بل أُعيد إنشاء بعضها عند استعادتها -غالبًا- على شكل دوقيات.
من ناحية أخرى تميّز عصر آل كومنين (1057-1185) بتقوية الحكم الذاتي الإقليمي الذي اتخذ في بعض الأحيان منعطفات انفصالية، مما يدل على فقدان سلطة الإمبراطورية على المناطق المحيطية. وتحت حكم السلالة الأنجيلوسية (1185-1204) حصلت بعض المناطق على استقلالها مثل قبرص وبلغاريا وطرابزون.
تميزت القرون الأخيرة من الإمبراطورية بتدهور إقليمي تدريجي حيث اختفت البنود واستُبدل بها وحدات إدارية أُخرى، فكان يُدير بعض المدن ومحيطها حكام محليون عُرف واحدهم باسم كيفالي أما المنطقة الإدارية الأوسع فعُهدَ بها إلى أفراد مستبدّين من العائلة الإمبراطورية.
أدى نظام برونويا -وهو نظام مالي يمنح بموجبه الإمبراطور أرضاً لأحد الأفراد حتى يديرها ويجني منها أرباحه الخاصة- إضافةً اللامركزية المتزايدة للسلطة ووجود قادة محليين ذوي نفوذ كبير إلى فقدان السلطة المركزية للإمبراطورية.
أدى ذلك النظام -الذي نُظر إليه على أنه إقطاعي- إلى نشوء مناطق متطورة ومستقلة عن القسطنطينية، وهكذا بقيت ديسبوتية المورة -وهي مقاطعة بيزنطية سابقة- موجودةً لبضع سنوات بعدما زالت الإمبراطورية فعليًا عام 1453. لكن تعارض بعض المؤلفات الحديثة تفسير الانحدار العام للإمبراطورية بنشوء النظام الإقطاعي، وتشير إلى ديمومة السلطة المركزية بما في ذلك ضمن المقاطعات ذات الحكم ذاتي.
بعد سقوط روما
كان التحدي الرئيسي للإمبراطورية بعد سقوط روما هو الحفاظ على مجموعة من العلاقات بينها وبين جيرانها. سرعان ما تمكنت الدبلوماسية البيزنطية من جذب جيرانها إلى شبكة من العلاقات الدولية. شملت هذه الشبكة إبرام المعاهدات، وتهنئة الحكام الجدد، واستيعاب المواقف والقيم والمؤسسات الاجتماعية البيزنطية.
في حين كان الكتاب الكلاسيكيون مغرمين بالتمييز الأخلاقي والقانوني بين السلام والحرب، اعتبر البيزنطيون الدبلوماسية شكلاً من أشكال الحرب لكن بوسائل أخرى. على سبيل المثال واجه البيزنطيون التهديد البلغاري من خلال الدعم المالي لدولة كييف روس.
امتلكت الدبلوماسية في ذلك العصر وظيفة جمع المعلومات الاستخبارية بالإضافة إلى وظيفتها السياسية البحتة. على سبيل المثال تعامل مكتب خاص يُدعى «مكتب البرابرة» في القسطنطينية بمسائل البروتوكولات وحفظ السجلات لأي قضايا تتعلق بالبرابرة، لذا ربما كان للمكتب وظيفة استخبارية أساسية بحد ذاتها.
اعتقد جون بيري أن المكتب يُشرف على جميع الأجانب الذين يزورون القسطنطينية. بينما ظاهريًا وُجدَ «مكتب البروتوكول» الذي كان واجبه الأساسي أن يضمن الاعتناء بالمبعوثين الأجانب بطريقة صحيحة ويتلقى أموالًا كافيةً من الدولة لإعالتهم، وقد احتفظ بجميع المترجمين الرسميين، وربما كانت له وظيفة أمنية أيضًا.
استفاد البيزنطيون من عدة ممارسات دبلوماسية. على سبيل المثال غالبًا ما بقيت السفارات في العاصمة لسنوات. وكان يُطلب باستمرار من عضوٍ ما في إحدى العائلات المالكة أن يبقى في القسطنطينية، ليس فقط ليكون رهينةً محتملةً في المستقبل، بل أيضًا «بيدقًا» مفيدًا في حالة تغير الظروف السياسية في البلد الذي أتى منه.
تضمنت الممارسات الدبلوماسية الرئيسية الأخرى إرباك الزوار من خلال العروض الفخمة. ويرجع الحفاظ على الحضارة القديمة في أوروبا إلى مهارة الدبلوماسية البيزنطية ودرايتها، والتي لاتزال إحدى مساهمات بيزنطة الدائمة في تاريخ أوروبا.
كان القانون البيزنطي في جوهره استمرارًا للقانون الروماني، مع زيادة النفوذ المسيحي التشريعي. تعرّف معظم المصادر القانون البيزنطي على أنه التقاليد القانونية الرومانية التي بدأت بعد عهد جستينيان الأول (حكم 527-565)، وانتهت بسقوط القسطنطينية في القرن الخامس عشر.
في عهد جستينيان الأول كان تريبونيان -وهو فقيه وقاضٍ بارز- مشرفًا على مراجعة القانون المعروف اليوم باسم قانون جستنيان.
في مجال القانون أثّرت إصلاحات جستنيان الأول بوضوح على تطور فقه القضاء حيث أصبح كتابه قانون جستنيان أساس القانون الروماني المتجدد في العالم الغربي، بينما أثّر عمل ليو الثالث إيكلوغا على تشكيل المؤسسات القانونية في العالم السلافي.
يستند النظام القانوني الأكثر انتشارًا في العالم -وهو القانون المدني- إلى قانون جستنيان (في معظم أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا، وكذلك في الولايات القضائية المختلطة لجنوب إفريقيا واسكتلندا وكيبيك والفلبين ولويزيانا).
أثّر القانون البيزنطي كثيرًا على التقاليد الغربية والقوانين الكنسيَّة خلال العصور الوسطى وما بعدها، إذ تأثرت الممارسات القانونية الغربية بدرجة كبيرة بقانون جستنيان (قانون جوريس سيفيليس) خلال عصر النهضة الأوروبية وما بعده وبالقانون الروماني خلال العصور الكلاسيكية.
يُعدّ الإيكلوغا -الذي جمع بين القانونين المدني والجنائي والذي أمر به ليو الثالث الإيساوري (حكم 717-741)- أهم أعمال القانون البيزنطي، وهو أول قانون روماني بيزنطي رئيسي صدر باللغة اليونانية بدلًا من اللاتينية.
بعد فترة وجيزة وُضع قانون المزارعين الذي نظم المعايير القانونية خارج المدن. بينما جرى العمل بالإيكلوغا في العديد من مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط (وأوروبا)، بسبب أهمية القسطنطينية باعتبارها مركزًا تجاريًا في المنطقة؛ وكان قانون المزارعين مؤثرًا بارزًا على التقاليد القانونية السلافية، بما في ذلك التقاليد الروسية.
في عام 438 نظّم دستور «ثيودوسيانوس» القانون البيزنطي، وقد سُمي على اسم ثيودوسيوس الثاني. لم يدخل دستور «ثيودوسيانوس» حيز التنفيذ فقط في الإمبراطورية البيزنطية، وإنما أيضًا في الإمبراطورية الرومانية الغربية، ولم يُلخّص القوانين فحسب، بل أعطى أيضًا توجيهات بشأن التفسير.
في القرن العاشر أنجز ليو السادس الحكيم تدويناً كاملاً للقانون البيزنطي كله باليونانية مع البازيليكا وهي مجموعة من القوانين المكتملة، والتي أصبحت أساس جميع القوانين البيزنطية لاحقاً وتركت تأثيراً يمتد إلى القوانين البلقانية الحديثة.
إلى هنا نأتي وإياكم إلى نهاية مقالنا اليوم من ومضات تاريخية، على وعد بلقاء الاسبوع القادم بأذن الله. دمتم في أمان الله.
كتبت: مروة مصطفى