منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نكون غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
نبذة عن سلسلة غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة
لمن يتابعنا للمرة الأولى، نعرفكم بهذه السلسلة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، فقد قررنا في الداديز أن نعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بهذه الحضارة العريقة الخالدة.
فتحدثنا منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة وننزل إلى الأعماق.
نستكمل اليوم الحديث عن الأسر المصرية القديمة في حلقة جديدة من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، ونستعرض تاريخ الأسرة الرابعة والعشرون.
الأسرة الرابعة والعشرون هي مجموعة قصيرة العمر من الفراعنة الذين اتخذوا عاصمتهم في سايس، في غرب الدلتا. وهم حكام معروفون في تاريخ مصر. وتعتبر تلك الأسرة جزءاً من الفترة الانتقالية الثالثة.
شكل تف ناختي الأول تحالفاً من الممالك الصغيرة بالدلتا لإخضاع مصر العليا. تلك الحملة استرعت انتباه پيي، ملك النوبة، الذي سجل تفاصيل انتصاره عليه، وإخضاعه تف ناختي وحلفاءه في مدونة مفصلة.
الأسرة الرابعة والعشرون
بدأت بعد انهيار عصر الأسرة الحادية والعشرين، عصور امتدت من النصف الثاني للقرن العاشر ق. م حتى نهاية التاريخ الفرعوني، وجرى الاصطلاح على تسميتها باسم العصور المتأخرة، المتأخرة من حيث الزمن أساسًا، ومن حيث الحصارة ضمنًا.
وبدأت هذه العصور بداية اضطرارية بعهود حكام ذوي أصول مهجنة لم يكونوا أغرابًا تمامًا عن مصر، ولم يفتحوا البلاد عنوة، وإنما كانوا من قبائل خليطة من أهل الواحات والصحراء الغريب الأقدمين “التحنو والثمحو” وفئات من شعوب البحر “من أمثال المشاوش والشرادنة والإقوش والتورشا واللوكي، والشكرش والربو.
وهم الذين أسلفنا أنهم نزلوا السواحل الغربية والليبية منذ القرن الثالث عشر ق. م فصاعدًا وعجزوا عن دخول مصر بالقوة أكثر من مرة، فاكتفوا بالتسلل إليها مرتزقة في جيشها أحيانًا، ومدنيين رعاة وتجارًا ورقيقًا أحيانًا أخرى، واستقرت قبائلهم على حوافها الزراعية وفي واحاتها وحول حصونها الحدودية منذ أواخر عهد رمسيس الثالث.
ثم ما لبثوا أن تمصروا عن اختيار أو خضوعًا للأمر الواقع “خلال فترات “، ودانوا بدين المصريين وعبدوا أربابهم، فاطمأن الفراعنة إلى بعض جماعاتهم ووزعوهم في حاميات متفرقة وأقطعوهم أراضي زراعية واسعة كمرتبات دائمة.
بيد أن هولاء النزلاء لم ينسوا أصولهم تمامًا فجمع رؤساؤهم بين لقب “ور” المصري بمعنى عظيم، وبين لقب “مس” الليبي بمعنى ملك “قبلي”، ولقب “رئيس ما الكبير” اختصارًا فيما يبدو للقب رئيس المشاوش الكبير. ولم ينس المصريون لهم أيضًا أصولهم الأجنبية بسهولة، فاحتفظوا لهم باسم المشاوش حيث تركزت أغلب جماعاتهم قرب الفيوم، وباسم الليبيين “الربو” أحيانًا، ثم باسم الأجانب بوجه عام فيما دون ذلك.
وقد مر بنا في مناسبة سابقة كيف أن إقليم طيبة لم ينس لهم أنهم عاثوا فسادًا في أرضه متسللين ومرتزقة مأجورين. وطالت إقامة المهاجرين المتمصرين هؤلاء واستقرت أكبر جالياتهم في منطقة الفيوم سالفة الذكر وفي منطقة أهناسيا بخاصة، باعتبارهما من المداخل الطبيعية من الواحات إلى وادي النيل.
ويعتقد مانیتون أنه ملك الأسرة الرابعة والعشرين الأوحد. ولكن، من المعتقد أن أبیه “تفناخت” ھو مؤسس تلك الأسرة . وأساسا، كان “تفناخت ” أمیرا على “سايس “، ولكنه تمكن من ضم وتوحید كافة مقاطعات الدلتا فى قبضته، التى كانت قد تفجرت وتناثرت إلى إقطاعیات وراثیة متعددة فى أواخر عصر الأسرات اللیبیة .
وتمكن ھذا الفرعون من التوغل فى أعماق مصر الوسطى محاولا إعادة وحدة مصر . ولكن “الملك النوبى بیعنخى ” ھب لمجابھته، وحاقت الھزيمة بتفناخت على يد ھذا الأخیر الذى سارع إلى حصار مدينة منف.
ولم يستطع تفناخت أن يحول بینه وبین احتلال ھذه المدينة العريقة القدم، حیث كان يحتمى فى بعض جوانبھا. ولكنه، على أية حال، تمكن من الھروب إلى مستنقعات الدلتا.
وفى نھاية الأمر، لم يجد بدا من الاستسلام لبیعنخى. ولكن، حالما انطلق “النوبى بیعنخى” نحو الجنوب، عاود تفناخت حمل سلاحه: وعلى ما يبدو أنه قد تمكن من استعادة سلطته وسیادته السابقة، على الأقل حتى منف. وبعد وفاته، خلفه ابنه بوخوريس على عرش المملكة.
ويبدو أنه راعى ضرورة التحالف مع الأشوريین. وبذا، سارع إلى إرسال بعض الجزي والضرائب إلى ملكھم “سرجون”. خاصة أن قائده، المدعو، “سیبو ” قد ھزم شر ھزيمة عند محاولته مجابھة الجیوش الأشورية الضخمة.
ولقد اعتبر الإغريق الفرعون “بوخوريس ” ضمن كبار المشرعین المصريین. ولكننا مع ذلك، لم نحط علما بإنجازه الداخلى ھذا، الذى شغل معظم فترة حكمه القصیر الأمد . بل لیس لدينا معلومات محددة عن أواخر أيامه. ولكن، ھا ھو “مانیتون” يقول: أن “شاباكا” الملك النوبى قد تمكن من اعتقاله وحرقه حیا …ربما عقابا له على خیانة أبیه، الذى كان قد تحالف مع بیعنخى.
إلى هنا نكتفي بهذا القدر من حلقتنا الخامسة والعشرون من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، وعلى وعد بلقاء الاسبوع القادم.
كتبت: مروة مصطفى