غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.. الحلقة 14
منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نكون غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
نبذة عن سلسلة غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة
لمن يتابعنا للمرة الأولى، نعرفكم بهذه السلسلة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، فقد قررنا في الداديز أن نعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بهذه الحضارة العريقة الخالدة.
فتحدثنا منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة وننزل إلى الأعماق.
وعرفنا معنى كلمة مصر وسبب تسميتها ومعنى المصطلحات المصرية القديمة، وكيف قرر المصري القديم أن ينشأ امبراطورية حقيقية تديرها حكومة مركزية، وأن يأسس جيشا قويا يردع بقوته كل طامع وغاصب.
كما تحدثنا عن تفاصيل الأسر المصرية حتى الأسرة السادسة وعرفنا ملوكها وملكاتها، واليوم نستكمل معكم هذه الحلقات من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، ونتحدث عن الأسرة الثامنة.
الأسرة الثامنة القفطية (٢٢٨٠–٢٢٤٠ق.م)
أما الأسرة الثامنة فرغم ورود أسماء ملوك لها في قوائم الملوك المصريين، فإن تاريخها غامض غموضًا تامًّا، اللهم إلا بعض حقائق عن بعضهم ضئيلة سنذكرها فيما بعد؛ ففي قائمة «العرابة» نجد أسماء ١٧ ملكا حكموا زمنًا في عهد هذه الأسرة.
وفي قائمة تورين نجد مذكورًا ثمانية ملوك فقط، أما المؤرخ «مانيتون» فإنه ذكر لنا أن عدد ملوكها ثمانية عشر دون أن يذكر أسماءهم، على حين أن قائمة سقارة لم يرد فيها ذكر ملك بعد «بيبي الثاني» إلى أوائل الأسرة الحادية عشرة؛ أي إنها أهملت الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، هذا ما ورد في القوائم، أما الآثار فإنها لم تذكر لنا ما يشفي غليلنا.
آثار الأسرة الثامنة
حقًّا أنه يوجد في سقارة بعض أهرام لا بُدَّ أنهم أقيمت بعد عهد «بيبي الثاني»، غير أننا لم نتحقق من بينها اسم ملك، ولكن إذا حكمنا حسب الأسماء التي ذكرتها لنا قائمة «العرابة» في عهد الأسرة الثامنة وجدنا أن ملوك هذه الأسرة قد بقوا محافظين على تسمية أنفسهم بأسماء أسلافهم في معظم الأحيان.
فمثلًا نجد من بين ملوك الأسرة الثامنة خمسة ملوك تسموا باسم «نفر كا رع» وواحد تسمى باسم «ددف رع» وآخر أطلق على نفسه اسم «نفر إر كا رع» وهكذا، والظاهر أنه كان من جراء الحركة التي قام بها حكام المقاطعات للمحافظة على استقلالهم في مقاطعاتهم منذ الأسرة السادسة.
أن حاكم مقاطعة قفط آنس من نفسه القوة فضم إلى مقاطعته المقاطعات السبع العليا من الوجه القبلي، وأسس منها مملكة مستقلة تحت سلطانه عن أسرة منف، ومما يؤسف له أن «مانيتون» لم يذكر لنا شيئًا مطلقًا عن هذه الأسرة القفطية، ويرجح أنها قد مكثت نحو أربعين عامًا.
وقد حفظت لنا الآثار أسماء بعض ملوكها؛ إذ عثر في قفط نفسها على بعض آثار تدل على أن ملوكها كانوا يحملون كل الألقاب الفرعونية، وقد كانت نقطة ضعف ملوكها أنهم كانوا يغمرون وزراءهم الذين كانوا ينتخبون من أسرة خاصة بسلطة واسعة، حتى إنهم كانوا في الواقع هم المسيطرون الحقيقيون على شئون هذه المملكة، وقد عثر على مراسيم عدة للملك «نفر كاو حور» أحد ملوك هذه الأسرة في قفط نفسها، منها مرسوم خاص بوقف تمثال الملك.
وقد أرسل الأمر الخاص بهذا الوقف إلى رئيس كتبة الحقول للمقاطعات الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة من مقاطعات الوجه القبلي لتنفيذه، ولا نزاع في أن جميع الحقول المصرية في المقاطعات الخمس السالفة الذكر هي المقصودة لتحبس على هذا التمثال مما يدل دلالة واضحة على أن هذه الممتلكات كانت ضئيلة، وأن أملاك الملك في المقاطعات أخذت تتناقص وتتضاءل.
ويرجع السبب لما كان يهبه الملك لحكام الأقاليم من أملاكه الخاصة في هذه الجهات مما زاد في سلطانهم وقلل من نفوذه وأضعف سلطانه، كذلك لدينا مرسوم آخر يعد من أهم المراسيم الإدارية التي عثرنا عليها في هذا العصر؛ إذ فيه نصب الملك وزيره «شماي» مديرًا على الوجه القبلي ووضع تحت سلطانه الاثنتين والعشرين مقاطعة التي كان يشتمل عليها صعيد مصر مع ذكر اسم كل منها من البداية إلى النهاية حسب ترتيبها الجغرافي.
وبعد فترة عين الملك وزيرًا آخر لا نعرف اسمه، ويحتمل أنه ابن «شماي»، ليكون مديرًا للوجه القبلي، غير أنه قد حدد اختصاصه بالمقاطعات السبع الجنوبية فقط، ومن ذلك نرى أن الوزير قد اشترك معه ابنه في حكم المقاطعات التي تحت سلطانه «من المقاطعة الأولى إلى السابعة» من الوجه القبلي، ويمكننا أن نستنتج من ذلك أن وظيفة الوزير التي أنشأها الملك لكبح جماح حكام الأقاليم أصبحت وراثية يتولاها الابن عن الأب مما جعل نفوذ الملك صفرًا.
وقد كان كذلك من حسن الصدف أن عثرنا في هذا العهد على مرسوم آخر في قفط لملك يدعى «دمزاب تاوي» ولم يذكر في قوائم الملوك المعروفة لدينا لهذا العهد، غير أنه من المحقق أنه من هذه الأسرة، وقد تأكدنا من ذلك من اسم الوزير الذي ذكر معه، وقد جاء في هذا المرسوم أن الملك كان يهدد بالعقاب الصارم كل أهل هذه الأرض الذين يعتدون على الأوقاف أو يتلفون أو يهشمون النقوش أو المعابد أو موائد القربان أو تماثيل الوزير «إدي» التي توجد في كل المعابد والأماكن الدينية.
أليس من المدهش أن نرى للوزير «إدي» تماثيل وقربانًا في كل المعابد التي في الوجه القبلي وأن يحافظ عليها ويعتنى بها بهذه الكيفية؟ وأدهش من ذلك أنه بجانب العقاب الدنيوي الذي يلقاه كل من تعدى على حقوق هذا الوزير أن نرى الملك يعلق أهمية كبرى على العقاب في الآخرة. إذ يقول: إن المعتدين لن يجمعهم الإله مع الملائكة المطهرين، بل سيوثقون ويكبلون ويساقون أسرى للإله أوزير ولآلهة مدنهم.
وهنا نشاهد أن الإله «أوزير» والآلهة المحلية كانت تعد قضاة، وقد كانت هذه المكانة محفوظة للإله «رع» حتى هذه الفترة، وذلك مما يدل على الانقلاب الديني ضد عبادة هليوبوليس «عين شمس» ومملكة منف، وأخيرًا نرى أن الملك «دمز إب تاوي» يهدد بسخطه وغضبه كل الموظفين بما فيهم الفرعون والوزير والأمراء الذين يعارضون في تنفيذ هذا المرسوم.
على أننا سنشاهد مثل هذا التهديد للملك في مرسوم في عهد أواخر الدولة الوسطى، وهو عصر يشبه الذي نحن بصدده الآن من حيث الاضطراب والفوضى والغزو، ولا شك أن مثل هذه الحالة من العلامات المميزة لعصور الفوضي والاضطراب. ومنذ بضع سنين عثر على مقبرة لأحد حكام مقاطعة إدفو في بلدة المعلَّة، وتقع في منتصف الطريق بين إسنا وأرمنت على الشاطئ الأيمن للنيل.
ونقوش هذه المقبرة لم تنشر بعد رغم أنها في غاية الأهمية من الوجهة التاريخية، وربما كانت النقوش الفريدة التي نفهم منها أن الثورة التي قام بها فراعنة قفط لم تقبلها حكام المقاطعات الجنوبية الثلاثة الفنتين وإدفو وهيراكنبلوليس — عن طيب خاطر، بل حارب أهلها من أجل استقلالهم بكل عنف وبسالة؛ إذ الواقع أن النقوش تدلنا على أن أهلها حاربوا ضد طيبة وقفط في جانب ملك لم نعرف اسمه بكل أسف على وجه التحقيق، وقد ختمت هذه الحروب بانتصار طيبة وقفط طبعًا غير أن نقوش هذا الحاكم لم تذكر لنا هذا الانتصار.
ومن المحتمل جدًّا أن الأسرة الثامنة المنافية قد اختفت حوالي عام ٢٢٤ق.م والظاهر أن قبل هذا التاريخ بعامين كانت المملكة الشمالية الصغيرة التي كانت قد حرمت ريفها الخصيب، قد اقتطع منها إقليم آخر يحتوي عدة مقاطعات، وذلك أن حاكم مقاطعة إهناس «هراكليوبوليس» واسمه «حيتي» أعلن نفسه فرعونًا على مصر السفلى ومصر العليا، واتخذ لنفسه لقب «أمر إيب».
حاولنا في سياق هذه السلسلة من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة معرفة معلومات أكثر ولا نعلم كيف انتهت تلك المملكة المنفية، على أن شواهد الأحوال كلها كانت تنذر باختفائها؛ إذ كانت فريسة بين الآسيويين الذين كانوا يحتلون الدلتا وبين ملوك إهناس الجدد، ولذلك لم يعد في مقدور ملوكها البقاء وقضي عليها من عالم الوجود.
ومن ذلك الحين نرى أن مصر في هذا العهد كانت مقسمة ثلاثة أقسام، ففي الشمال كانت الدلتا في يد الآسيويين وفي مصر الوسطى كان حكام إهناس هم المسيطرون، وفي الوجه القبلي نجد أن البلاد كانت ملتفة حول حكام طيبة، ولا نعرف شيئًا عن اختفاء أمراء قفط الذين كانوا أصحاب السلطان في المقاطعات الجنوبية.
وربما يعزى ذلك إلى ضعفهم وتغلب حكام طيبة عليهم، ويظن الأستاذ «بتري» أن الوجه القبلي في هذا العهد قد غزاه قوم من الجنوب، وكان من جراء ذلك أن الغزاة استوطنوا طيبة، وكان منهم فيما بعد سلالة ملوك الأسرتين الحادية والثانية عشرة.
وقد اعترف الدكتور هول بهذه الفكرة في كتاباته عن مصر في هذا العهد، ومما يدعم هذا الرأي وجود الدم النوبي في عروق هؤلاء الملوك الذين كان يطلق عليهم اسم «منتوحتب» أو «سنوسرت» أو «أمنمحيت»، ومن كل ذلك نستخلص أن البلاد في هذا العهد قد اجتيحت بالغزوات الأجنبية من كل الجهات.
فانقض عليها الآسيويون من الشمال والنوبيون من الجنوب واللوبيون من وسطها، وعادت البلاد إلى سيرتها الأولى من الفوضى والانقسام، ولم يبقَ فيها تحت سلطان الجنس المصري الحقيقي إقليم واحد. هذا إذا سلمنا بأن ملوك إهناس يرجع أصلهم إلى الجنس اللوبي.
هذا كل ما في جعبتنا عن الأسرة الثامنة وعلى وعد بلقاء لنتحدث عن بقية الأسر المصرية القديمة ونستكمل حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
المصدر: مروة مصطفى