السلطان عبد الحميد الثاني وقيام الحركة الصهيونية

لمن يتابعنا للمرة الأولى، تحدثنا في سلسلة مقالات مميزة عن الحضارة المصرية حتى شرحنا أسباب ضعف الدولة العثمانية، واليوم نتحدث عن السلطان عبد الحميد الثاني.
منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة ونفتش عن الحضارة المصرية ونسرد ومضات تاريخية عن تاريخ الاسر المصرية القديمة.
فتحدثنا عن ومضات تاريخية للحضارة المصرية منذ البداية وعرفنا يعني ايه مصر أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن ننزل إلى الأعماق.
تحدثنا في المقال السابق عن أسباب ضعف الدولة العثمانية واليوم نخصص مقالنا للحديث عن حقبة السلطان عبد الحميد الثاني.
قناة السويس في عهد الدولة العثمانية
بويع السلطان عبد العزيز الأول بالخلافة وعرش آل عثمان بعد وفاة أخيه عبد المجيد، ومما يذكر في عهده: افتتاح قناة السويس وقيام ثورة في جزيرة كريت تم إخمادها. وكان هذا السلطان كثير التجوال في البلاد الخارجية، فزار مصر وزار فرنسا، وحاول تقريب روسيا إليه حتى تخافه دول أوروبا.
لكنه عُزل بناءً على فتوى شرعية بسبب تبذيره أموال الدولة، كما تنص بعض المصادر، وعُثر عليه ميتًا في غرفته فقيل أنه انتحر وقيل أنه قُتل، وتولّى بعده ابن شقيقه عبد المجيد الأول مراد، ولم يستمر عهده أكثر من 3 أشهر، وتم عزله بسبب اختلال عقله.
السلطان عبد الحميد الثاني
وبعد مراد الخامس بويع السلطان عبد الحميد الثاني بالخلافة وعرش السلطنة، وفي ذلك الحين كانت البلاد تمر في أزمات حادة ومصاعب مالية كبيرة، وتشهد ثورات عاتية في البلقان تقوم بها عناصر قومية تتوثبّ لتحقيق انفصالها، وتتعرض لمؤامرات سياسية بهدف اقتسام تركة «الرجل المريض».
ومنذ اليوم الأول لارتقائه العرش، واجه السلطان عبد الحميد الثاني موقفًا دقيقًا وعصيبًا، فقد كانت الأزمات تهدد كيان الدولة، وازدادت سرعة انتشار الأفكار الانفصالية، وأصبح للوطنية معنى جديد أخذت فكرته تنمو وتترعرع في الولايات العثمانية، ووجد السلطان نفسه مشبع بالثورة والاضطراب. فقد تجددت الثورة في إقليميّ البوسنة والهرسك، واستمرت في بلغاريا، وكان الصرب والجبل الأسود في حالة حرب مع الدولة.
استغلال الدول الأوروبية
ولهذه الأسباب تدخلت الدول الأوروبية لاستغلال الموقف بغية تحقيق مصالحها بحجة إحلال السلام. فشجعت روسيا والنمسا الصرب والجبل الأسود على حرب العثمانيين، حيث رغبت النمسا بضم البوسنة والهرسك، بينما رغبت روسيا بضم الأفلاق والبغدان وبلغاريا، ووعدت روسيا النمسا والصرب والجبل الأسود بالوقوف بجانبهم إذا قامت حرب بينهم وبين العثمانيين. وبالفعل قامت الحرب بين الدولة العثمانية وتلك الدول، إلا أن الجيوش العثمانية استطاعت الانتصار ووصلت إلى مشارف بلغراد، غير أن تدخل أوروبا أوقف الحرب.
قدّمت الدول الأوروبية الكبرى لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية لرعاياها المسيحيين، ومراقبة الدول الأوروبية لتنفيذ إجراءات التحسين، فرفضت الدولة اللائحة؛ لأن هذا يعتبر تدخلاً صريحًا في شؤونها، فاستغلت روسيا الرفض واعتبرته سببًا كافيًا للحرب، وفي هذه المرة أطلقت أوروبا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين، فاحتلت الأفلاق والبغدان وبلغاريا ووصلت أدرنة وأصبحت على بعد 50 كيلومترًا فقط من الآستانة.
معاهدة سان ستيفانو
كذلك دخلت جيوشها الأناضول، وعادت الصرب والجبل الأسود لتعلن الحرب على الدولة العثمانية، فاضطرت الأخيرة إلى طلب الصلح، وأبرمت معاهدة سان ستيفانو مع روسيا، التي اعترفت فيها باستقلال الصرب والجبل الأسود والأفلاق والبغدان وبلغاريا، ثمّ تمّ تعديل هذه المعاهدة في مؤتمر عُقد في برلين تمّ بموجبه سلخ المزيد من الأراضي عن الدولة العثمانية.
كشفت قرارات مؤتمر برلين عن ضعف الدولة العثمانية، فاستغلت الكيانات السياسية والقومية هذا الضعف، وقامت بانتفاضات على الحكم المركزي بهدف الحصول على الاستقلال الكامل، ودعمتها أوروبا في سبيل تحقيق ذلك، وهكذا توالت الأزمات السياسية في وجه السلطان عبد الحميد الثاني بعد الحرب العثمانية الروسية ومؤتمر برلين.
إنضمت تونس إلى قائمة الأقاليم التي فقدتها الدولة العثمانية لصالح أوروبا في عهد عبد الحميد الثاني عندما احتلتها فرنسا، ثم لحقتها قبرص التي احتلتها بريطانيا، وأتبعتها بمصر والسودان، بحجة حماية الدولة العثمانية من أي اعتداء.
قيام الحركة الصهيونية
لعلّ أهم الأحداث التي جرت في عهد عبد الحميد هي الأزمة الأرمنية وقيام الحركة الصهيونية، ويتفق المؤرخون، المسلمون منهم خاصةً، أن هذين الحدثين هما ما ساهم في تشويه صورة الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثاني. وتفصيل الأزمة الأرمنية أن الأرمن طالبوا بعد مؤتمر برلين باستقلالهم، خاصة أن السلطان لم يقم بتطوير يُذكر لأوضاعهم، وعملت البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية على إذكاء الشعور القومي الأرمني.
وفي الوقت نفسه اعتقدت الدوائر الحاكمة في الآستانة أن بعض الأرمن يعملون كعملاء لروسيا وبريطانيا، وساورها الشكوك حول ولائهم، ومن ثم نظرت إليهم على أنهم خطر يهدد كيان الدولة ومستقبلها وأمنها. وتصاعد التوتر في بلاد الأرمن، ولم تلبث أن عمّت الاضطرابات، فخرج حوالي 4000 ارمني عن طاعة السلطان في بدليس بعد تأخر الإصلاحات الموعودة.
أما الحركة الصهيونية، فنشأت بقيادة ثيودور هرتزل، ودعت إلى إنشاء وطن قومي ليهود العالم في فلسطين الخاضعة للدولة العثمانية وتشجيع اليهود على الهجرة إليها، فأصدر السلطان عبد الحميد الثاني فرمانًا يمنع هجرة اليهود إلى الأراضي المقدسة، لكنه اضطر في نهاية المطاف إلى التهاون معها تحت ضغط الدول الأوروبية، وخاصةً بريطانيا.
المجازر الحميدية
فقام العثمانيون بالرد على ثورة الأرمن بأن أرسلوا جيشًا مؤلفًا بمعظمه من الأكراد إلى مناطق الثورة حيث دمّروا العديد من القرى الأرمنية وقتلوا كثيرًا من الثوّار ومن ساندهم، فيما أصبح يُعرف باسم «المجازر الحميدية»، وتطور العنف ليشمل المسيحيين بشكل عام كالسريان كما في مجازر ديار بكر.
دور الانحلال وخاتمة الدولة (1908–1922)
كانت الأفكار القومية قد تغلغلت بشكل كبير في جسم الدولة العثمانية أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وأنشأ الداعون لهذه المفاهيم المؤسسات والجمعيات التي تحمل أفكارهم، وكان من أهم هذه الجمعيات جمعية تركيا الفتاة، التي تأسست في باريس وكان لها فروع أخرى في برلين، وفي أنحاء الدولة العثمانية في سالونيك والآستانة، ومن أشهر فروعها جمعية الاتحاد العثماني، التي سرعان ما أعيد تسميتها بجمعية الاتحاد والترقي سنة 1889.
واستطاعت أن تضع لها قدمًا في الجيش، أن يكون لها جناح عسكري. وامتد نفوذ الاتحاد والترقي في الدولة، فضم إليه الكثير من ضباط الفيلق الأول المسيطر على الآستانة، وكذلك الفيلقين الثاني والثالث المرابطين في الولايات العثمانية الباقية في روملي.
وقد حاول السلطان عبد الحميد مقاومة هذه الجمعيات، فنادى وتمسّك بفكرة الجامعة الإسلامية، وقام باضطهاد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي في محاولة للاحتفاظ بسلطته المطلقة، لكنه اضطر بعد اندلاع ثورة تركيا الفتاة سنة 1908 وتهديدات الاتحاديين بالإطاحة به إلى إعادة دستور 1876 العثماني المعلق فسيطر الاتحاديون على معظم مقاعد المجالس النيابية، وبعد فشل الثورة المضادة لصالح السلطان عبد الحميد، أطيح به وولوا أخاه محمد الخامس مكانه.
السلطان محمد الخامس
تولّى محمد “رشاد” الخامس العرش والدولة في احتضار، ولكنها كانت ما تزال متماسكة، وأصبح الاتحاديون هم الحكام الفعليين للبلاد، أما السلطان فكان مجرّد ألعوبة في أيديهم، وفي ذلك الوقت كانت الدولة قد أضاعت كثيرًا من بلادها في أوروبا، والأفكار القومية تنتشر يومًا بعد يوم، والبلاد في حالة إفلاس بسبب الحروب المتواصلة، والأوروبيون قد تسلطوا على مالية الدولة لاستيفاء ما لهم عليها من ديون.
وفي نفس السنة لاعتلاء محمد رشاد العرش، سيطرت الإمبراطورية النمساوية المجرية على البوسنة والهرسك، وبعد ثلاث سنوات هاجمت إيطاليا ليبيا، آخر الممتلكات العثمانية الفعلية في شمال أفريقيا، فقاومها العثمانيون بكل طاقتهم، لكنهم لم يستطيعوا شيئًا، فسقطت البلاد بعد سنة من المعارك الشديدة.
حرب البلقان
ثم جاءت حرب البلقان الأولى التي تولّى كبرها كل من مملكة صربيا ومملكة الجبل الأسود ومملكة اليونان ومملكة بلغاريا، وفقدت فيها الدولة العثمانية ما تبقى لها من ممتلكات في البلقان عدا تراقيا الشرقية ومدينة أدرنة، وانسحب حوالي 400,000 مسلم من سكّان تلك البلاد إلى تركيا خوفًا من ما قد تُقدم عليه جنود العدو.
وفي تلك الفترة ظهرت النزعة التركية الطورانية بقوة وعنف، وسعى حزب الاتحاد والترقي إلى تتريك الشعوب غير التركية المشتركة مع الأتراك في العيش تحت ظل الدولة العثمانية، مثل العرب والشركس والأكراد والأرمن.
وفي 1911 شكل مجموعة من الطلاب العرب في باريس جمعية العربية الفتاة، وهو نادٍ قومي عربي صغير. وهدفها المعلن «رفع مستوى الأمة العربية إلى مستوى الأمم الحديثة». استضافت الجمعية المؤتمر العربي 1913 في باريس، وكان الغرض منه مناقشة الإصلاحات المرغوبة.
كما طالبوا بعدم إلزام المجندين العرب في الجيش العثماني بالخدمة في مناطق غير عربية إلا في زمن الحرب. ولكن قمعت السلطات العثمانية نشاط التنظيم وأعضائه، فتوارت جمعية العربية الفتاة. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن انتشارها كان بين قيادات العرب، أما العامة فقد اعتبروا أنفسهم رعايا مخلصين للخليفة.
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ومن تولى العرش من بعده، في المقال القادم سنتحدث عن قيام الجمهورية التركية، على وعد بلقاء قريب. دمتم في أمان الله.
كتبت: مروة مصطفي