منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نكون غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
لمن يتابعنا للمرة الأولى، نعرفكم بهذه السلسلة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، فقد قررنا في الداديز أن نعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بهذه الحضارة العريقة الخالدة.
فتحدثنا منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة وننزل إلى الأعماق.
وعرفنا معنى كلمة مصر وسبب تسميتها ومعنى المصطلحات المصرية القديمة، وكيف قرر المصري القديم أن ينشأ امبراطورية حقيقية تديرها حكومة مركزية، وأن يأسس جيشا قويا يردع بقوته كل طامع وغاصب.
كما تحدثنا عن تفاصيل الأسر المصرية حتى الأسرة الخامسة وعرفنا ملوكها وملكاتها، واليوم نستكمل معكم هذه الحلقات من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، ونتحدث عن الأسرة السادسة.
غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة
وقد علمنا التاريخ في كل العصور أن كل مؤسس جديد لا بُدَّ أن يكون رجلًا ذا بطش وقوة، ولكن قناع الوجه الذي عثر عليه الأثري «كويبل» بالقرب من معبد هرم «تي تي» في سقارة تدل ملامحه، على أن ذلك الملك كان رجلًا ناعم الخلق رقيق العاطفة إذا صح أن هذا القناع قد عمل شبيهًا لوجهه لا لإنسان آخر.
ويعزو المؤرخ «مانيتون» أصل هذه الأسرة إلى منف، وربما كان محقًّا في ذلك بعض الشيء؛ لأن الأسرة الخامسة كانت كل ميول ملوكها متجهة نحو عبادة عين شمس (الإله رع) أما ميول ملوك الأسرة السادسة الدينية، فكانت تتجه إلى عبادة الإله فتاح في منف.
الملك تي تي
يظهر أن هذا الملك أسرف في عدائه للإله رع أو أنه كان مغتصبًا للعرش؛ حيث يذكر مانيثون أنه لم يمت ميتة طبيعية بل قتله حراسه بعد حكم دام نحو ستة أعوام على الأرجح، وقد دفن في هرمه الذي شيده في سقارة.
يوجد وثيقتان صادرتان عن كبير كهنة الإله فتاح في منف، وهما تدلان على أن الملك «تي تي» كان متجهًا بميوله إلى تنظيم كهنوت «فتاح»، وقام فعلًا بإصلاحات وتغييرات هامة في نظام كلية الكهنة، على حين أنه توجد كذلك لوحة في المتحف البريطاني نقشت عليها قصيدة من هذا العصر نسب فيها أصل كل ما ظهر وما خفي إلى الإله فتاح الإله الواحد الخالق لكل شيء.
وكذلك عُثر في سقارة على مقبرة لكاهن أعظم للإله فتاح في عهد الملك «وناس» اسمه «سابوابيبي»، وقد أخبرنا في نقوشه أنه خدم في عهد وناس «ثم أصبح اليوم في حضرة ابن الشمس تيتي» عاش أبديًّا، كاهنًا أكبر لفتاح، ومحترمًا من الملك أكثر من أي خادم آخر، وكاهن «فتاح» الأكبر وحامل كأس الملك، ورئيس الأمور السرية للملك في كل مكان.
أوسر كارع:
تولى الحكم بعد تي تي؛ ولكنه لم يستمر في الحكم إلا مدة قليلة، ويبدو أنه كان مغتصبًا للعرش كذلك؛ لأنه لم يذكر في قائمة سقارة ولم يعترف به مانيثون ومع أنه “كما يتضح من اسمه” كان في الغالب من أتباع “رع”؛ إلا أنه مائلا لكهنة بتاح؛ إذ بني هرمه في منف مركز عبادة هذا الإله، ولا بد أن كهنة بتاح استطاعوا أن يثبتوا في الميدان أمام كهنة رع وأخذ نفوذهم يزداد إلى درجة كبيرة؛ فانتشرت الأسطورة التي تنسب إلى بتاح خلق الكون.
بيبي الأول:
يبدو أن المتاعب التي تعرض لها البيت المالك منذ نهاية عهد الأسرة الخامسة ظلت مستمرة في عهد هذا الملك أيضًا؛ فمع أنه حكم نحو خمسة وعشرين عامًا، نعمت فيها مصر بشيء من الرخاء والازدهار وارتفعت فيها الفنون؛ فإن حياته العائلية تعرضت لبعض المؤامرات؛ حيث يشير “أوني” الذي كان من أكبر موظفي الدولة في عهد الأسرة السادسة، إلى أن الملك عينه بين المحققين الذين أسند إليهم التحقيق مع زوجة الملك قيما نسب إليها.
وقد سبقت الإشارة إلى أن سلطان الملوك المطلق أخذ يتزعزع وربما شعر بذلك بيبي الأول، وأراد أن يعمل على توطيد مركزه؛ إذ رأى زيادة نفوذ أمراء الأقاليم وحكام المقاطعات؛ فصاهر إحدى عائلات الصعيد القوية؛ حيث تزوج من ابنة أمير منطقة أبيدوس التي أنجب منها ولده وخليفته على العرش “مري إن رع” ومن المحتمل أن والدة هذا الأمير توفيت وهو صغير فتزوج والده من شقيقتها, وهذه أنجبت ولدًا آخر تولى العرش بعد أخيه.
ويبدو أن عهد بيبي الأول، قد شهد نشاطًا من بعض العناصر المجاورة في السابعة من عمره تقريبًا، وولده الآخر “بيبي الثاني” في الثانية من عمره تقريبًا.
مري إن رع:
كذلك يشير أوني إلى أنه استغل أخشاب الأشجار في النوبة لعمل سفن كبيرة، استغلها في شحن أحجار الجرانيت اللازمة لبناء هرم الملك، وإلى أنه أحضر تابوت الملك غطاءه من محاجر حاتنوب، وتوحي هذه النصوص بأن الملك أو بالأحرى ديوانه شعر بخطر حكام الأقاليم؛ فعين هذا الموظف النشيط حاكمًا عامًّا على الوجه القبلي، ولم يكن لهذه الوظيفة مثل هذا الدور العملي في مراقبة حكام الأقاليم إلا في عهد هذا الملك؛ لأن لقب حاكم الجنوب أصبح بعد ذلك لقبًا شرفيًا ولم تكن له قيمة عملية.
ويدل نصان في منطقة الشلال الأول على أن الملك ذهب إلى هناك بنفسه؛ حيث تقبل خضوع زعماء بعض القبائل النوبية.
ولا بد أن الاهتمام بالاتجار مع النوبة قد ازداد في عهد الأسرة السادسة؛ إذ لا شك في أن مصر كانت تحصل على منتجات النوبة في أول الأمر عن طريق الرحالة والمغامرين، ثم بدأت هذه التجارة تنتظم وأخذ ملوك الأسرة السادسة يعهدون بها إلى بعثات تجارية يرأسها أحد كبار الموظفين أو يكلف بها أمير الإقليم الجنوبي من مصر.
وهؤلاء كان الواحد منهم يلقب عادة بلقب يدل على رئاسة فرق من المرتزقة؛ حيث يبدو أن عددًا من هؤلاء، ومن الجنود النظاميين كانوا يرافقون تلك البعثات لحمايتها. ومن أشهر رؤساء البعثات في ذلك العهد “حرخوف” الذي يعد أعظم رحالة الدولة القديمة؛ حيث وصل في أسفاره إلى منطقة بعيدة تدعى يام٣، وقد بدأ أولى رحلاته في عهد هذا الملك, وكان فيها يصاحب والده “إري”.
الملك بيبي الثاني «نفر كا رع»
تولى العرش وهو في السادسة من عمره وكانت والدته أشبه بوصية على العرش في أثناء السنوات الأولى من حكمه، ومن المرجح أن قوة الأمير “جعو” “خال الملك” وعظم مركزه هما السبب في رعاية مصالحه كملك طفل ومصالح أمه الملكة الوالدة، وقد عاش هذا الملك إلى أن بلغ من العمر أرذله ويكاد يجمع المؤرخون على أنه ظل يحكم نحو أربعة وتسعين عامًا.
وأهم ما حدث في عهده توالي الرحلات التي كان يقوم بها أمراء الإقليم الجنوبي إلى النوبة ووصلوا فيها إلى مناطق لم يسبق للمصريين أن وصلوها من قبل، ورغم النجاح الباهر الذي صادفوه في أول الأمر؛ فإن بعض الرحالة قد لقوا حتفهم في تلك البلاد فيما بعد؛ مما يدل على أن هيبة مصر في أواخر عهد هذا الملك تعرضت إلى الاستهانة بها؛ لأن ما أصاب البلاد من ضعف كان النوبيون يشعرون به دون ريب؛ فبعض النصوص المتأخرة من عهده تشير إلى ذلك؛ إذ يفهم منها أن النوبيين بدأوا يظهرون روح العداء نحو مصر، ولذا أخذ قواد القوافل يستميلونهم بالهدايا.
وربما كان وصول هذا الملك إلى سن الشيخوخة واستمراره مدة طويلة كحاكم ضعيف واهن؛ مما أدى إلى ضعف سلطان الملك وانهيار الإدارة المركزية، ولم يقدر لمصر أن يجلس على عرشها ملك قوي إلا بعد نحو مائتي عام حينما تأسست الدولة الوسطى؛ إذ لم يتبع هذا الملك في الحكم من ملوك الأسرة السادسة إلا “مري إن رع الثاني” الذي لم يحكم إلا سنة واحدة ثم تبعته على العرش “نيت إقرت” التي ذكرها مانيثون باسم “نيتوكريس” ولم تبقَ هي الأخرى.
لا نحو عامين ثم اندلعت نيران الثورة في البلاد، وانتهت بذلك الدولة القديمة.
ولم يكن النوبيون وحدهم هم الذين يشعرون بما ينتاب مصر من ضعف؛ بل إن بعض العناصر الآسيوية المجاورة كانت هي الأخرى تشعر بالحالة الداخلية في مصر، ومن المرجح أنها كانت ترقبها دائمًا وتتحين الفرص للإغارة على الدلتا أو على الأقل تحاول الهبوط إلى أراضي الوادي الغنية للاستقرار فيها.
المراجع:
انظر كتاب المؤلف “علاقات مصر بالشرق الأدنى القديم” الإسكندرية ١٩٦٢ ص٢٩-٣٢.
وهنا تنتهي التفاصيل المتعلقة بالأسرة المصرية السادسة، وعلى وعد بلقاء جديد في سلسلة حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
المصدر: مروة مصطفي