منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نكون غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
نبذة عن سلسلة غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة
لمن يتابعنا للمرة الأولى، نعرفكم بهذه السلسلة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، فقد قررنا في الداديز أن نعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بهذه الحضارة العريقة الخالدة.
فتحدثنا منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة وننزل إلى الأعماق.
نستكمل اليوم الحديث في حلقة جديدة من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، نستكمل معا تاريخ الإمبراطورية البيزنطية بعد الانتهاء من العصر الروماني. وقبل الحديث عن هذا العصر الذاخر بالأحداث والتقلبات وجب علينا التنوية أننا سنتناول الحديث عنه في حلقات متعددة، وذلك لتعثر الحديث عنه في مقال واحد. هلم بنا نتعرف على تاريخ الإمبراطوية البيزنطية في حلقة اليوم من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
واجهت الإمبراطورية البيزنطية طوال تاريخها العديد من التهديدات على جبهات مختلفة، حيث تعرضت عاصمتها القسطنطينية لحصارات كثيرة، مما هدد بقاءها في كثير من الأحيان. ومع ذلك فقد نجحت حتى القرن الثالث عشر في صد تلك الهجمات، مع تعرضها لخسائر إقليمية كبيرة.
الجيش البيزنطي
حافظ الجيش البيزنطي بصفته وريثاً للجيش الروماني الشرقي- على مستوى مماثل من الانضباط والبراعة الاستراتيجية والتنظيم، ووفقاً للمؤرخ ديفيد نيكول كان من بين الجيوش الأكثر فاعلية في غرب أوراسيا لمعظم فترة العصور الوسطى. بمرور الوقت أصبح سلاح الفرسان أكثر بروزًا في الجيش البيزنطي في حين اختفى نظام الفيلق الروماني في أوائل القرن السابع. عكست الإصلاحات اللاحقة بعض التأثيرات من الشعوب الجرمانية والآسيويين.
في البداية لم يكن الجيش البيزنطي سوى جيش روماني، ومن الصعب تحديد تاريخ تأسيسه بدقة. قُسّم الجيش الروماني في ذلك الوقت إلى فيلقين؛ الأول متنقل مسؤول عن الرحلات الاستكشافية إلى مختلف أنحاء الإمبراطورية، بينما يكون الثاني وسُمّيَ «ليمتنيي» مسؤولًا عن الدفاع عن حدود الإمبراطورية. غالبًا ما كانت الوحدات الحدودية رديئة في جودتها، لكنها وضحت أهمية الحدود العسكرية في مواجهة الغزوات البربرية.
في الشرق كانت هناك أربع تشكيلات عسكرية حدودية: واحدة في الدانوب، وواحدة في بلاد ما بين النهرين وأرمينيا لمواجهة الساسانيين، وواحدة في بلاد الشام لمواجهة القبائل العربية، وواحدة في مصر للدفاع عن وادي النيل. تمركزت هذه القوات على طول أماكن محصنة إلى حد ما حسب المنطقة، وكانت التحصينات شديدة على طول نهر الدانوب.
ومع ذلك فإن نظام الليمس انخفض بسرعة في السنوات الأولى من القرن الخامس بسبب تكلفته وعدم فعاليته وتشتت القوات، أما بالنسبة للجيش الميداني المختص بالحملات العسكرية، فقد تكون عام 401 من عشرات الآلاف الرجال في الشرق وحده. شهدت الفترات الأولى للإمبراطورية البيزنطية تطور سلاح الفرسان، وكان وقتها يقتصر على قوات احتياط صغيرة. كان الفرسان يحملون درعًا ثقيلًا سُمّيَ «كاتافراكت».
بعد الفتوحات الإسلامية للشام ومصر أُجبر الجيش البيزنطي الميداني على التراجع إلى الأناضول، وهي منطقة محمية بالحدود الطبيعية التي شكلتها جبال طوروس. بعد ذلك الانسحاب تشكلت تدريجيًا البنود، وهي مقاطعات إدارية استمدّت أسماءها من معسكرات الوحدات العسكرية البيزنطية. كان هذا هو الحال مثلًا مع بند أوبوسكيون التي نشأت في بيثينيا، والتي أخذت اسمها من قوات نخبة بيزنطية.
وبالإضافة لهذا التنظيم العسكري الجديد بقيت بعض الأفواج العسكرية التي أُنشئت منذ الأيام الأولى للإمبراطورية. وبحسب الاحتياجات العسكرية أُنشئت مقاطعات عسكرية جديدة في أوروبا وقامت أخرى مكان مقاطعات كبيرة في الأناضول. كان هذا النظام المتضمن عدة جيوش إقليمية والقائم على شبكة كثيفة من التحصينات فعالًا ضد الغارات الممنهجة التي شنّها المسلمون بعد فشل حصار القسطنطينية الثاني بين عامي 717 و718.
في الواقع فإن القتال ضد الجيوش العربية تطلّب تعبئةً سريعةً عن طريق الفلاحين الجنود الذين شكلوا الجزء الأكبر من جيوش البنود. احتلت الخدمة العسكرية دورًا مهمًا في حياة القرويين أكثر منها في أوروبا الغربية. كانت تلك القوات العسكرية تُوجّه بواسطة مخطط استراتيجي تضعه قيادة كل بند، وكانت القوات مقسمة إلى وحدات أصغر.
لكن سرعان ما نشأت الحاجة لوجود جيش إمبراطوري دائم تحت قيادة مباشرة من الإمبراطور، وكان ذلك في القرن الثامن عندما تمكّن الأباطرة من شن هجمات على جبهات مختلفة، حيث تطلبت تلك الهجمات وجود جيش مستعد دائمًا، فتأسست كتائب التاجماتا، والتي تضمنت أربعة أنواع رئيسية: السكولاي، الأكسكاباتوي، الأريثموس، والهيكاناتوي. وعلى عكس الجزء الأكبر من قوات البنود التي كانت تحشد فقط عند الحاجة، فإن كتائب التاجماتا كانت قواتٍ محترفة.
وقد لعبت هذه القوات المحترفة والمخلصة للإمبراطور دورًا في إخماد التمردات المسلحة في الأقاليم. مع التوسّع البيزنطي خلال حكم السلالة المقدونية تراجعَ دور قوات البنود بعد أن أصبحت غارات العرب أقل خطورة، واستُبدل بها شيئًا فشيئًا التاجماتا، حيث كانت إيرادات الدولة المرتفعة تسمح بإنشاء جيش دائم أقوى من أي وقت مضى.
أسَر كل كتيبة تاجماتا «دمستق»، وكان أكثرهم شهرة هو الدمستق المسؤول عن السكولاي، حيث أصبح من يشغل ذلك المنصب قائدًا للجيش البيزنطي بعد الإمبراطور. لم تحدث أي تغييرات عميقة بعد معركة ملاذكرد ووصول آل كومنين إلى السلطة، وبقيَ الجيش البيزنطي مكونًا فقط من أفواج مقاتلة محترفة، لكنها اختلفت عن تلك التي كانت في البداية، مثل الهيكاناتوي والأكسكاباتوي. تحت حكم الباليولوج تجسّد التدهور العام للدولة في مؤسستها العسكرية التي تناقص عدد جنودها تدريجياً.
في مختلف العصور جلبت الإمبراطورية البيزنطية وحدات من المرتزقة بانتظام من أجل زيادة قواتها، وكان أشهرها الحرس الفارانجي الذي أنشأه باسيل الثاني في القرن العاشر. وبالمثل حاولَ ألكسيوس الأول كومنينوس دعوة القوات الغربية لمحاربة السلاجقة في نهاية القرن الحادي عشر، قبل أن يجد نفسه غارقًا في حملات الصليبيين. بالإضافة إلى ذلك لم يتردّدِ الأباطرة البيزنطيون في جلب قوات متحالفة معهم إذا لزم الأمر، مثل الكومان الذين ساهموا في معركة ليفونيون ضد البجناك عام 1091.
نادرًا ما سعى الجبش البيزنطي لمواجهة مباشرة مع الخصم، وفضّل فقط التركيز على مضايقته، وذلك بسبب التفوق العسكري والاقتصادي للعديد من خصوم البيزنطيين، ويتضح هذا من الأدلة العسكرية التي كتبت خلال مختلف عصور الإمبراطورية
عصور الإمبراطورية
البحرية
لم تمتلك الإمبراطورية البيزنطية في سنواتها الأولى أي أسطول بحري. تأسست البحرية في منتصف القرن الخامس بسبب ظهور تهديد الوندال. تألفّت البحرية من نوع جديد من السفن يسمى الدرمونة بدلًا من السفن الكلاسيكية التي وُجدت في العصور القديمة.
على الصعيد العالمي مرّت البحرية البيزنطية بتطور مشابه لتطور الجيش، لكن على عكس البحرية الرومانية -التي واجهت تهديدات بحرية محدودة للغاية- رأت البحرية البيزنطية أن تفوقها المتوسطي أصبحَ موضع تنافس في عدة مناسبات. جُمعت القوات البحرية البيزنطية ضمن وحدة كارابيسيانوي، التي قُسّمت إلى ثلاثة مقاطعات بحرية أهمها مقاطعة Cibyrrhaeot على الساحل الجنوبي للأناضول.
خضع الأسطول المركزي الذي تمركزَ في القسطنطينية لسلطة قائد برتبة «درنجار». لقد ساهمت البحرية البيزنطية المجهزة بالنار الإغريقية في تحقيق عدة انتصارات عظيمة، مثل الانتصار ضد الدولة الأموية خلال حصار القسطنطينية الثاني. خلال هذه المعركة استخدمت تلك النيران في حرق سفن المهاجمين.
بحلول أواخر القرن الثامن أصبحت البحرية البيزنطية -التي كانت قوة جيدة التنظيم والتجهيز- القوة البحرية المهيمنة في البحر الأبيض المتوسط مرةً أخرى، لكن في القرن التاسع ازدادات القوة البحرية لدول الخلافة الإسلامية بدرجة كبيرة مما أدخلها في تنافس شديد مع البيزنطيين، وتمكن البيزنطيون في القرن العاشر من استعادة موقعهم المُهيمن في شرق البحر الأبيض المتوسط بعد مواجهات كثيرة.
انطلاقًا من القرن الحادي عشر شهدت البحرية البيزنطية تدهورًا ملحوظًا، ولم يعد بإمكانها مواجهة القوات البحرية للدويلات الإيطالية التي بدأت تنافس الإمبراطورية البيزنطية تجاريًا بوجه فعال. خلال فترة الترميم الكومنيني مرت البحرية بفترة من التعافي لكنها مالبثَت أن تراجعت مرة أخرى، وصولًا إلى تفكك الإمبراطورية إثرَ الحملة الصليبية الرابعة في عام 1204.
بعد استعادة الإمبراطورية في عام 1261 بدأ العديد من أباطرة السلالة الباليولوجية بمحاولات لإعادة إحياء البحرية، لكن كان لجهودهم تأثير مؤقت فقط. ركّز ميخائيل الثامن باليولوج (حكم 59-1282) بدرجة كبيرة على بناء أسطول قوي، وأبرمَ معاهدة دفاعية مع جنوا لتأمين المساعدات العسكرية البحرية منها مقابل حصولها على امتيازات تجارية تركت آثارًا وخيمةً على الاقتصاد البيزنطي، وبقيت البحرية البيزنطية ضعيفةً وتعتمد بدرجة كبيرة على مساعدات جنوا.
ومع ذلك لم تكن بيزنطة وجنوا قادرتين على مواجهة أسطول البندقية، واتّضح ذلك من هزيمة الأسطول البيزنطي-الجنوي المشترك المكون من 48 سفينةً أمامَ أسطول البندقية الصغير نسبيًا في عام 1263. بحلول منتصف القرن الرابع عشر تضاءل حجم الأسطول البيزنطي -الذي أرسل سابقًا مئات السفن الحربية عبر البحر- إلى بضع عشرات السفن في أحسن الأحوال، وانتقلت السيطرة على بحر إيجة إلى الأسطولين الإيطالي والعثماني. ومع ذلك استمرت البحرية في ممارسة نشاط خفيف حتى سقوط الإمبراطورية البيزنطية في يد العثمانيين عام 1453.
إلى هنا نأتي لنهاية حلقة اليوم من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، وعلى وعد بلقاء الأسبوع القادم. دمتم في أمان الله.
كتبت: مروة مصطفى