غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.. الحلقة 43
منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نكون غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
نبذة عن سلسلة غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة
لمن يتابعنا للمرة الأولى، نعرفكم بهذه السلسلة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، فقد قررنا في الداديز أن نعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بهذه الحضارة العريقة الخالدة.
فتحدثنا منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة وننزل إلى الأعماق.
نستكمل اليوم الحديث في حلقة جديدة من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، نستكمل معا تاريخ الإمبراطورية البيزنطية بعد الانتهاء من العصر الروماني. وقبل الحديث عن هذا العصر الذاخر بالأحداث والتقلبات وجب علينا التنوية أننا سنتناول الحديث عنه في حلقات متعددة، وذلك لتعثر الحديث عنه في مقال واحد. هلم بنا نتعرف على تاريخ الإمبراطوية البيزنطية في حلقة اليوم من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
القسطنطينية قديماً
خلال معظم وجودها شكّلت الإمبراطورية البيزنطية أكبر قوة اقتصادية وثقافية وعسكرية في أوروبا المسيحية وأسست ثقافة وحضارة مزدهرة، وكانت القسطنطينية حاضرة الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها دُرَّة المدن المسيحية، وكانت على جانبٍ كبيرٍ من التنظيم والتنسيق والتطوُّر بمقاييس ذلك الزمان، وعلى مدار ألفيتها كانت القسطنطينية أكبر مدن العالم وأجملها وأكثرها تقدماً، ومخزنًا للتماثيل ومخطوطات الماضي الكلاسيكي، ومركزًا رئيسيًا للمسيحية الشرقية، وحاضرة العلوم والفنون.
ولعبت العلوم البيزنطية دورًا هامًا في نقل المعارف الكلاسيكية للعالم الإسلامي، وإلى عصر النهضة في إيطاليا، وأيضاً في نقل العلوم العربية إلى عصر النهضة في إيطاليا. شغلت بيزنطة مكانًا هامًا في العصور الوسطى، وقد أثّرت القسطنطينية بواسطة ثقافتها وفنونها كثيرًا على الشعوب المحيطة بها، وتُظهر تماثيل الفنون العظيمة التي خلفتها القسطنطينية لمعان الثقافة البيزنطية.
ابتداءً من القرنين الرابع والخامس بدأت تتشكل ملامح حضارة رومانية شرقية جديدة مختلفة عن الحضارة الرومانية القديمة، فأصبحت اللغة اليونانية هي السائدة، وأصبح النتاج الفكري والفني في الشرق آسيويًا أفريقيًا أكثر منه أوروبيًا، فلم يتجاوز مجمل النتاج الفكري في الولايات الأوروبية في الإمبراطورية أكثر من 10% من مجموع النتاج البيزنطي، وقد كانت أهم المراكز الثقافية في الإمبراطورية هي الإسكندرية وأنطاكية وبيروت وقيسارية والرها وكبادوكيا.
اشتهرت القسطنطينيّة أيضًا بالروائع المعمارية، مثل كنيسة آيا إيرين وكنيسة الرسل المقدسة وكنيسة خورا وكنيسة باماكاريستوس وكاتدرائية آيا صوفيا الأرثوذكسية الشرقية والتي كانت مقرًّا لبطريركية القسطنطينية المسكونية، وقد وصفها عدد من الكُتَّاب بأنها «تحتل مكانة بارزة في العالم المسيحي»، وبأنها «أعظم من جميع الكنائس المسيحية». ويُشير المؤرخون إلى أنَّ آيا صوفيا اعتُبرت رمزًا ثقافيًا ومعماريًا وأيقونة للحضارة البيزنطية والحضارة المسيحيَّة الأرثوذكسيَّة.
إلى جانب الكنائس الفخمة ضمت المدينة قصر القسطنطينية الكبير الذي كان المقر الملكي الرئيسي للأباطرة البيزنطيين حتى عام 1081 وكان مركزًا للإدارة الإمبراطورية لأكثر من 690 عامًا، وضمت المدينة أيضاً برج غلطة وميدان سباق الخيل والبوابة الذهبيّة وصهريج البازيليك وصهريج ثيودوسيوس وقناة فالنس ومسلة تحتمس الثالث، فضلًا عن القصور الأرستقراطية الغنية والمترفة مثل قصر تكفور وقصر أنطاكية وقصر بوكليون وقصر لوسوس والساحات العامة وحماماتها الفاخرة والمترفة مثل حمامات زاكبيكوس.
الثقافة والفنون
امتلكت القسطنطينية العديد من الكنوز الفنية والأدبية قبل أن تسقط في عام 1204 وعام 1453. وكان ميدان سباق الخيل في ذلك الحين يُمثل مركزاً اجتماعياً للمدينة ومكانًا للرياضة. كما اشتهرت المدينة بمكتباتها وأبرزها كانت مكتبة القسطنطينية، وهي آخر المكتبات الكبيرة في العالم القديم استطاعت حفظ المعرفة القديمة لليونان والإغريق لأكثر من ألف عام وحوت على حوالي 100,000 نص.
أسست بيزنطة ثقافة رائعة، يمكن أن تكون أفضل ثقافة عرفتها العصور الوسطى، وبدون منازع الوحيدة التى ظلت موجودة في أوروبا المسيحية حتى القرن الحادي عشر. ظلت القسطنطينية خلال مئات السنين المدينة العظيمة الوحيدة في أوروبا المسيحية، ولم يُعرف لها مثيل في العظمة. “
جامعة القسطنطينية
تعتبر جامعة القسطنطينية التي أسسها الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني أول جامعة في العالم وفقاً لبعض المؤرخين. وتضمنت الجامعة كليات ومدارس في الطب والفلسفة واللاهوت والقانون، كما كانت المدارس الاقتصادية المختلفة والكليات والمعاهد الفنية والمكتبات وأكاديميات الفنون الجميلة أيضًا مفتوحة في المدينة.
مع انهيار روما والانشقاق الداخلي في البطريركيات الشرقية الأخرى أصبحت كنيسة القسطنطينية بين القرنين السادس والحادي عشر أغنى مركز للعالم المسيحي وأكثرها نفوذاً. وكان لها دور أساسي في نهوض المسيحية وصقل لاهوتها وفلسفتها وفقهها وقوانينها خلال عصور الرومان والبيزنطيين، إلى جانب كونها مقرًا لبطريرك القسطنطينية المسكوني، كما احتوت المدينة على بعض أقدس الآثار في العالم المسيحي مثل إكليل الشوك والصليب الحقيقي.
وتطور الطقس البيزنطي وشعائره خلال القرن الثالث في البلاط البيزنطي في مدينة القسطنطينية، وهو الآن ثاني أكثر الطقوس استخدامًا في العالم المسيحي بعد الطقس الروماني الكاثوليكي. ولا يزال الإرث الليتورجي والأدبي والمعماري والثقافي البيزنطي ظاهراً وحيّاً في دول أوروبا الشرقيَّة والبلقان.
ولعبت الإمبراطورية البيزنطية دوراً هاماً في تاريخ المسيحية، فأصبحت المكان الذي تدور فيه كل حوادث الكنيسة الكبرى، وتنطلق منه حركتها الفكرية، حيث إن معظم المشاكل التي واجهت الكنيسة قد حدثت داخل الإمبراطورية، كما أن المجامع المسكونية السبعة من مجمع نيقية الأول (325) ومجمع القسطنطينية الأول (381) ومجمع أفسس (431) ومجمع خلقيدونية (451) ومجمع القسطنطينية الثاني (553) ومجمع القسطنطينية الثالث (680) ومجمع نيقية الثاني (787) عُقدت جميعها في مدن داخل الإمبراطورية البيزنطية.
وقد دفع ذلك المركز العظيم لبيزنطة بطريرك القسطنطينية -وهو يُناظر بابا روما بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية- لأن يقول: «لم يبقَ سوى إمبراطورية مسيحية واحدة هي إمبراطورية الشرق، ولم يبق سوى كنيسة مسيحية واحدة هي كنيسة الشرق».
العصر الذهبي
عاشت الإمبراطورية البيزنطيَّة عصرها الذهبي خاصةً تحت حكم الأسرة المقدونية (ما بين 867-1056) حيث دُعي عصرهم بعصر النهضة المقدونية، ففي عهدهم مرت الامبراطورية البيزنطية بنهضة ثقافية وعلمية وكانت القسطنطينية في عهدهم المدينة الرائدة في العالم المسيحي من حيث الحجم والثراء والثقافة. فقد كان هناك نمو كبير في مجال التعليم والتعلم ممثلًا بجامعة القسطنطينية ومكتبة القسطنطينية، وجرى الحفاظ على النصوص القديمة وإعادة نسخها.
في أية مدينة توجد أجمل نماذج الفسيفساء البيزنطية؟
كما ازدهر الفن البيزنطي وانتشرت الفسيفساء البيزنطية الرائعة في تزيين العديد من الكنائس الجديدة، وتحت حكم آل كومنين تجدد الاهتمام بالفلسفة الإغريقية الكلاسيكية، بالإضافة إلى تزايد الناتج الأدبي باليونانية العامية.
احتل الأدب والفن البيزنطيان مكانة بارزة في أوروبا، حيث كان التأثير الثقافي للفن البيزنطي على الغرب خلال هذه الفترة هائلًا وذا أهمية طويلة الأمد. مارست الإمبراطورية البيزنطية قوة جذب ثقافي قوية وهيمنت على الحياة الاقتصادية في البحر الأبيض المتوسط. ويُشير المؤرخون إلى صدمة الزوار والتُجار خصوصًا بالأديرة والكنائس الجميلة في المدينة، ولا سيما آيا صوفيا، أو كنيسة الحكمة المقدسة. وفقًا للمسافر الروسي في القرن الرابع عشر ستيفن من نوفغورود: «بالنسبة لآيا صوفيا، لا يستطيع العقل البشري وصفها».
مرسوم إمبراطوري عام 388 -أُدرجَ لاحقًا في «مدونة جستنيان»- سكانَ الإمبراطورية بقبول العقائد التي أقرّتها المجامع المسكونية بما فيها مجمع خلقيدونية، وأن يَتخذ من يقبلون هذا المرسوم اسم «المسيحيين الكاثوليك»، واعتبرَ كل من لا يلتزم بالمرسوم «أشخاصًا مجانين وأغبياء»؛ كأتباع «العقائد الهرطقية».
مع صدور عدة مراسيمَ إمبراطورية، ومع الموقف الصارم لكنيسة الدولة نفسها، والتي أصبحت تُعرف باسم الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية أو المسيحية الشرقية، إلا أن الأخيرة لم تمثل أبدًا جميع المسيحيين في بيزنطة. يعتقد مانجو أنه في المراحل الأولى للإمبراطورية كان «المجانين والأغبياء» -ممّن وصفتهم كنيسة الدولة «بالزنادقة»- يشكلون غالبية السكان. إلى جانب الوثنيين الذين كانوا موجودين حتى نهاية القرن السادس، واليهود.
علاوة على أنه كان هناك العديد من أتباع مختلف المذاهب المسيحية -وفي بعض الأحيان حتى الأباطرة- كالنسطورية والمونوفيزية والآريوسية والبيلكانيون على سبيل المثال، والذين كانت تعاليمهم تتعارض مع العقيدة اللاهوتية الرئيسية كما حددته المجامع المسكونية.
حدث انقسام آخر بين المسيحيين عندما أمر ليو الثالث بتدمير الأيقونات في جميع أنحاء الإمبراطورية. أدى ذلك إلى أزمة دينية كبيرة انتهت في منتصف القرن التاسع بترميم الأيقونات. خلال الفترة نفسها ظهرت موجة جديدة من أتباع الوثنية في البلقان ينحدرون أساسًا من السلافيين. كان هناك تحويل إلى المسيحية بطريقة تدريجية، وفي المراحل المتأخرة من العصر البيزنطي مثّلت الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية معظمَ المسيحيين -وبوجهٍ عام- معظمَ الناس فيما تبقى من الإمبراطورية.
كان اليهود أقلية مهمة في الدولة البيزنطية طوال تاريخها، ووفقًا للقانون الروماني شكلوا مجموعة دينية معترفًا بها قانونيًا. في الفترة البيزنطية المبكرة حدثَ تسامحٌ معهم عمومًا، ولكن تبع ذلك فترات من التوترات والاضطهاد. على أي حال بعد الفتوحات العربية وجد غالبية اليهود أنفسهم خارج الإمبراطورية. ويبدو أن أولئك الذين بقوا داخل الحدود البيزنطية عاشوا في سلام نسبي من القرن العاشر فصاعدًا.
إلى هنا نأتي وإياكم إلى نهاية حلقة اليوم من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، وعلى وعد بلقاء الأسبوع القادم. دمتم في أمان الله.
كتبت: مروة مصطفى