غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.. الحلقة 45
منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نكون غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
نبذة عن سلسلة غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة
لمن يتابعنا للمرة الأولى، نعرفكم بهذه السلسلة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، فقد قررنا في الداديز أن نعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بهذه الحضارة العريقة الخالدة.
فتحدثنا منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة وننزل إلى الأعماق.
نستكمل اليوم الحديث في حلقة جديدة من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، نستكمل معا تاريخ الإمبراطورية البيزنطية بعد الانتهاء من العصر الروماني. وقبل الحديث عن هذا العصر الذاخر بالأحداث والتقلبات وجب علينا التنوية أننا سنتناول الحديث عنه في حلقات متعددة، وذلك لتعثر الحديث عنه في مقال واحد. هلم بنا نتعرف على تاريخ الإمبراطوية البيزنطية في حلقة اليوم من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
الفن البيزنطي
الفن البيزنطي المتبقّي هو في الغالب فن ديني، ومع استثناءات في فترات معينة هو تقليدي للغاية حيث اتّبعَ النماذج التقليدية التي تترجم بعناية لاهوت الكنيسة إلى تعابير فنية. تمثّلت الفنون الرئيسية في التصوير الجصّي، وتذهيب الكتب، والرسم على الألواح الخشبية خاصةً في العصور المبكرة، بالإضافة للفسيفساء، بينما كان النحت التصويري نادرًا جدًا باستثناء نحت العاج الصغير.
احتفظ رسم المخطوطات حتى النهاية ببعض التقاليد الواقعية الكلاسيكية التي كانت مفقودة في الأعمال الكبيرة. كان الفن البيزنطي مرموقًا للغاية ومطلوبًا في أوروبا الغربية حيث حافظ على تأثير مستمر على فن القرون الوسطى حتى نهاية تلك الفترة تقريبًا. كان هذا هو الحال بصفة خاصة في إيطاليا حيث استمرّ انتشار أنماط الفن البيزنطي بأسلوب معدّل خلال القرن الثاني عشر، وأصبح للفن البيزنطي تأثيرات تكوينية على فن النهضة الإيطالية، لكن لم يتأثر الفن البيزنطي بأنماط أخرى سوى قليلًا. مع توسع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية انتشرت الأشكال والأنماط البيزنطية في جميع أنحاء العالم الأرثوذكسي وخارجه. يمكن العثور على تأثيرات العمارة البيزنطية -لا سيما في المباني الدينية- في مناطق متنوعة من بلاد الشام ومصر وشبه الجزيرة العربية وروسيا ورومانيا.
جسّدت الأيقونات خصوصيّة الفن البيزنطي. رُسمت الأيقونات عادةً على ألواح خشبية، لكنها رُسمت أحيانًا على ألواح أخرى أو أخذت شكل فسيفساء أو لوحات جدارية. انتشرت الأيقونات بقوة في العالم الأرثوذكسي، وبالإضافة لوجودها في الكنائس فقد انتشرت أيضًا في عددٍ من المباني العلمانية. لم تنجُ معظم الأيقونات المبكرة من التحطيم، ما أدى لإنتاج أيقونات جديدة بقوة بدءاً من القرن التاسع بعد انتهاء حرب الأيقونات البيزنطية.
صورت الأيقونات مشاهدَ من حياة الشخصيات الرئيسية في المسيحية مثل يسوع ومريم العذراء والقديسين والملائكة. حظيت الفسيفساء بشعبية كبيرة بين البيزنطيين فاستخدموها لتزيين كنائسهم خاصةً في القرون الأولى، وتعتبر أعمال الفسيفساء في رافينا وآيا صوفيا من أفضل الأمثلة على هذا الفن. في وقت لاحق بدأت بعض الشركات بأعمال ترميم الكنائس تحت حكم الباليولوج، ومن الأمثلة على تلك الأعمال فسيفساء كنيسة خورا. عمومًا كان الديكور الداخلي للكنائس الأرثوذكسية أكثر ثراءً من الخارج، كما أن استخدام اللوحات الجدارية شاعَ جدًا هناك.
المخطوطات المذهّبة
حظيت المخطوطات المذهّبة بتقدير كبير من البيزنطيين حيث ظلت ثقافة الكتب في مستوى مهم. كما انتشرت المنمنمات، وهي رسوم توضيحية مزخرفة تُستخدم لتوضيح النص في المخطوطات والكتب. وفي حين كانت مواضيع المخطوطات المذهّبة عمومًا ذات طبيعة دينية، فإن هناك بعض الأمثلة المختلفة مثل ديسقوريدوس فيينا وهو نسخة عن كتاب المقالات الخمس لديسقوريدوس، وتعتبر واحدة من أندر مخطوطات الفن البيزنطي المبكر.
تُعدّ مخطوطة سفر المزامير الباريسيّة التي يعود أصلها للقرن العاشر إحدى أشهر الأمثلة على المخطوطات المذهّبة في العصر البيزنطي، وكان أسلوبها أقرب إلى العصور القديمة وليس العصور الوسطى مما يدلّ على الرجوع إلى الجذور اليونانية الرومانية التي مّيزت الفن خلال العصر المقدوني. بقيت كذلك عدة مخطوطات من العصر المقدوني وأظهرت حيويّة ذلك الفن. وفي حين ظلّ أسلوب تذهيب الكتب القديم مرجعاً أساسياً، فإن البيزنطيين أدخلوا عليه تأثيرات أخرى من الشرق، فقد تبيّن وجود ميل نحو تمثيل الأشكال الهندسية أو الحيوانية بانتظام. بحلول القرن الثاني عشر ظهر نمط جديد أكثر حدة وأكثر هيراطيقية حيث تكون الشخصيات ممدودة وتتوضع على خلفية ذهبية، وشكّل ذلك الأسلوب فنًا راقيًا
فيما يتعلق بالسلع الفاخرة فقد حظيت بتقدير كبير من السلطة الدينية أو الأرستقراطية أو الأباطرة الذين استخدموها وسيلةً للترفيه، وكانت الصناعات العاجية حاضرةً بوجهٍ خاصّ خلال القرون الأولى قبل أن تنقطع الموارد بسبب سيطرة العرب على طرق الإمداد، لكن لاحقًا استعاد البيزنطيون شيئًا منها خلال عصر النهضة المقدونية (867-1025). بصرف النظر عن المواضيع الدينية فغالبًا ماأخذَ الصائغ في عمله مشاهدَ من الأساطير.
تركّز إنتاج هذه الكماليات في القسطنطينية وخضع لرقابة صارمة من السلطات، مع أن مراكز إنتاج الزجاج والحرير ازدهرت في وسط اليونان. اشتهر الفنانون البيزنطيون بوجهٍ خاص بإنتاج الحرير والمينا المزجج. أصبح البيزنطيون متخصصين في التطعيم الزخرفي على خلفية ذهبية أو فضية مطليّة باللآلئ أو الأحجار الكريمة الذي يُظهر تباينًا زاهيًا. يُعدّ وعاء الذخائر المقدسة في ليمبورغ آن در لان واحدًا من أرقى الإبداعات البيزنطية في صناعة المعادن والنجارة، وعلى عكس المنتجات الفنية الأخرى عانت أعمال الصّاغة من تدهور الإمبراطورية البيزنطية، حيث ضعُفت ثروتها وتناقصت المعادن الثمينة.
في الأدب البيزنطي وُجدت ثلاثة عناصر ثقافية مختلفة: اليوناني والمسيحي والشرقي. وغالبًا ما يُصنف الأدب البيزنطي في خمس مجموعات؛ أولها المؤرخون والمحاضرون والموسوعيون (مثل البطريرك فوتيوس، مايكل بسيلوس، ومايكل شوناتس الذي يعتبر أكبر موسوعيّ بيزنطي)، والثانية كُتّاب المقالات، والثالثة كُتّاب الشعر العلماني (الملحمة البطولية الحقيقية الوحيدة للبيزنطيين هي ديجينيس أكريتاس)، وتشمل المجموعتان المتبقيتان نوعان جديدان من الأدب: الأدب الكنسي واللاهوتي، والشعر الشعبي.
من بين ما يتراوح من ألفين إلى ثلاثة آلاف مجلدٍ من الأدب البيزنطي الباقي يتضمّن 330 مجلدًا فقط الشعر العلماني والتاريخ والعلوم والعلوم الزائفة. وفي حين إن الفترة الأكثر ازدهارًا في الأدب العلماني البيزنطي تمتد من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر، بيد أن الأدب الديني (مثل المواعظ والكتب الطقسية والشعر واللاهوت والأطروحات التعبّدية وما إلى ذلك) قد تطور في وقت مبكر جدًا وكان القديس رومانوس الملحن أبرز شخصياته.
في القرن التاسع أشارَ الجغرافي الفارسي ابن خرداذبة (ت 911) في كتاب لمناقشة الأدوات الموسيقية، إلى آلة الليرا كأداة نموذجية للبيزنطيين، جنباً إلى جنب مع الأورغن، والشيلياني (التي ربما تكون نوعًا من القيثارة أو السمسمية) وسالاندج (ربما مزمار القربة). أُطلق على آلة الليرا اسم ليرا دا براتشيو في مدينة البندقية، حيث اعتبرها الكثيرون سلف الكمان المعاصر، والذي ازدهرَ هناك فيما بعد.
لا تزال آلة الليرا المنحنية تُعزف في المناطق التي كانت جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية، حيث تُعرف باسم بوليتيكي ليرا (تترجم حرفيا. lyra of the City، أي القسطنطينية) في اليونان، وليرا كالابريا في جنوب إيطاليا، وليجريكا في دالماسيا. أما الأورغن فقد نشأ في العصر الهلنستي واستُخدم في الهيبودروم أثناء السباقات. أرسل الإمبراطور قسطنطين الخامس آلة أورغن ذات «أنابيب كبيرة من الرصاص» إلى بيبان القصير، ملك الفرنجة عام 757. كما أن شارلمان ابن بيبان طلبَ آلة أورغن مشابهة من أجل معبده في آخن عام 812، وبدأ تأسيسه في موسيقى الكنيسة الغربية.
كانت آلة «أولوس» آلة نفخ خشبية مزدوجة من القصب مثل آلة الأوبوا الحديثة أو الدودوك الأرمني. وتتعدد الآلات البيزنطية الأخرى مثل البلاجياولوس (πλαγίαυλος)، والذي يُشبه الفلوت، والأسكاولوس (ἀσκός)، وهوَ مزمار القربة، المعروف أيضًا باسم دانكيو (من اليونانية القديمة: Τὸ ἀγγεῖον)، وكان شائعَ الاستخدام طوال العصر الروماني في جميع أنحاء الإمبراطورية وحتى الوقت الحاضر (ومن أنواعه الغيدا في البلقان، والتسامبونا في اليونان، والتولوم، والأسكوماندورا في كريت، والباركابزوك في أرمينيا، والسيمبوي في رومانيا). تُعتبر آلة الزرنة نسخةً حديثةً من الأولوس. ومن الأدوات الأخرى المستخدمة في الموسيقى البيزنطية القانون، والعود، واللوتو، والسيمبالوم، والطنبور، والسيسترون، والتوبليكي، والداولي. يُزعم أن البيزنطيين قد اخترعوا آلة اللافتا قبل وصول الأتراك.
التعليم
يُعدّ التعليم أحد أفضل المظاهر التي حفظت التقاليد القديمة للإمبراطورية البيزنطية، حيث نشأ من فكرة بايديا في اليونان القديمة. دعمت الكنيسةُ التعليمَ في الإمبراطورية، ففي حين كان علمانيًا في البداية، لكن تأثير الكنيسة عليه نما على مر القرون، ولا سيما تحت حكم ألكسيوس الأول كومنينوس. شملَ التعليم قطاعات كبيرة من السكان، فكان التعليم الابتدائي يُقدّم للأطفال من ست إلى تسع سنوات، سواء في المدن أو في القرى الصغيرة، مما ضمنَ حدًا أدنى من إتقان الكتابة والقراءة. ولذلك فإن القدرة على التخاطب والكتابة انتشرت إلى حد ما، وحتى لو كان التعليم مأجورًا فمن المستبعد أن تكون كلفته باهظة بالنسبة لعدد كبير من العائلات. ومع أن التعليم نال هذه الأهمية، إلا أن مهنة التدريس لم تحظ باهتمام اجتماعي كبير.
أما بالنسبة للتعليم الثانوي، فقد كان أكثر نخبوية وتركّز غالبًا في القسطنطينية. تنوّعت المواد التعليمية وارتكزت على المقدمات (وهي قواعد اللغة، والبلاغة، والشعر)، والعلوم الأربعة (وهي الحسابيات، والهندسة، وعلم الفلك، والموسيقى). أما التعليم العالي فكان أقل تنظيماً، لكن القسطنطينية تمتّعت بثقل ساحق مع أن بعض مدن الشرق الأوسط الأخرى حافظت على الجامعات في القرون الأولى. كان إنشاء مبنى ماجنورا في القرن التاسع جزءًا من عودة النشاط الثقافي داخل الإمبراطورية إذ إنه تضمن مؤسسات تعليمية.
كما كانت جامعة القسطنطينية أهم المؤسسات الأكاديمية والتعليمية في عاصمة الإمبراطورية حتى سقوطها، حيثُ دُرّست فيها الفلسفة والقانون والطب والنحو والبلاغة باللغتين اللاتينية واليونانية. وقد ساهمت الكنيسة في إنشاء عدة مدارس ومعاهد أخرى، ونشطت المدارس الأكاديمية الفلسفية والفلكية في الإسكندرية، وبنيت أيضًا المدارس الرهبانية التي ركزت على الكتاب المقدس واللاهوت لكنها تضمنت كذلك تعليمَ نصوصٍ أدبية وفلسفية وعلمية في المناهج الدراسية، وقد بذل الرهبان الأرثوذكس جهودًا في نسخ المخطوطات الكنسية، وكتب الأدب القديمة
لم تختلف العمارة البيزنطية في البداية عن تلك الرومانية، فقد بُنيت القسطنطينية على نموذج المدن الرومانية ذلكَ الوقت والتي ضمّت مبانٍ عامة كبيرة تستوعب عددًا كبيرًا من السكان الحضريين. مع أن أسلوب العمارة البيزنطية انتشر بدرجة كبيرة حتى خارج الإمبراطورية، إلا أنه لم يتبق حاليًا سوى عدد قليل من المباني البيزنطية خاصةً المدنية منها. أدى التطور السريع للعبادة المسيحية إلى بناء الكنائس، وكانت تُبنى على طراز البازيليكا على غرار المعابد القديمة من حيث الطول، لكنها كانت أيضًا غنيّة بأساليب أخرى متنوعة مع تطوير كنائس بتخطيط مركزي.
غالبًا ما كان ديكور الكنائس غنيًا جدًا حيث شملَ الفسيفساء ذات الزخارف الهندسية في الأرضيات، والتلوينات الدينية للجدران والسقوف، والأعمدة وتيجان الأعمدة المنحوتة، بالإضافة لاستخدام الرخام. يمثل عهد جستنيان ذروة الإبداع المعماري البيزنطي. بنى الإمبراطور عدة مبانٍ هامّة في أنحاء إمبراطوريته المتوسّعة، مثل كنيسة القديس فيتالي وآيا صوفيا التي كانت لفترة طويلة واحدة من المباني الرئيسية في العالم المسيحي بالإضافة إلى أهميتها العلمية.
تباطأت وتيرة البناء بعد ذلك بدرجة حادة، فلم تكن الاضطرابات السياسية والفتوحات الأجنبية وانخفاض عدد السكان عواملَ مشجعة للبُناة. لاتسمح الاكتشافات الأثرية المجزّأة للغاية بالحصول على فكرة دقيقة عن الإنشاءات في القرى والمدن الصغيرة التي لم تصمد خلال الزمن. تزامن عصر النهضة المقدونية مع استئناف حركة البناء، لكن الصعب أن يكون حدثَ تجديد معماري حقيقي. خضعت العمارة الدينية لتغيير عميق في المقابل مع اعتماد مخطط الصليب المنقوش في بناء الكنائس، والذي يتميز بهيكل داخلي على شكل صليب تعلوه قبّة مركزية، وذلك لكي يكون المؤمن محاطًا بجوّ مقدّس من لحظة دخوله الكنيسة. ازدهر هذا المخطط بسرعة ليصبح نمطًا للكنائس الأرثوذكسية الشرقية حتى اليوم.
البناء والتشييد
تعلّق البناء في القسطنطينية أساسًا بترميم المباني القائمة، لكن بعض الأباطرة مثل باسيل الأول (حكم 867-886) حفّزوا على تجدّد الأسلوب المعماري، ويُلاحظ ذلك في كنيسة نيا إكليسيا (الكنيسة الجديدة) التي مثّلت بداية الفترة المعمارية البيزنطية الوُسطى، كما شكل تطوير منطقة بلاكيرنا في المدينة تحولًا كبيرًا حيث غدت مكان إقامة الإمبراطور. أتى إلهام المعماريين من الأيام الأولى للإمبراطورية، فكانت هناك رغبة في تقليد مباني جستينيان الأول لكن بدون تساوٍ في الأحجام. في الفترة الأخيرة من عمر الإمبراطورية البيزنطية كان ثمة تشتت في المراكز المعمارية، فقد عانت القسطنطينية من هجرة كبيرة للسكان، ولكن المناطق الأكثر ديناميكية مثل ديسبوتية إبيروس شهدت حركة معمارية بارزة حيث تعتبر مدينة ميستراس وكنيسة الرسل المقدسة في سالونيك من سمات هذه العمارة المتأخرة.
امتد الفن البيزنطي عمومًا والعمارة البيزنطية خصوصًا، إلى ما وراء حدود الإمبراطورية حيث لعب دورًا في إلهام المعماريين في المناطق المجاورة. وكان النصيب الأكبر من هذا التأثير للعالم الأرثوذكسي، فانتشرت مخططات الكنائس البيزنطية في العالم السلافي. وفي الشرق أيضًا استعارت الإنشاءات الإسلامية الأولى أحيانًا من التقليد البيزنطي البدئي، وخير مثال على ذلك الجامع الأموي في دمشق أو قبة الصخرة في القدس. وفي إيطاليا وصل تأثير العمارة البيرنطية إلى جمهورية البندقية التي كانت ذات يوم جزءًا من الإمبراطورية، حيث بُنيت كنيسة سان ماركو وفق نموذج كنيسة الرسل المقدسة في القسطنطينية. في جنوب إيطاليا وصقلية على وجه الخصوص امتزجَ التراث البيزنطي مع التأثيرات العربية والنورمانية مما أدى لظهور الثقافة النورمانية العربية البيزنطية.
في المقاطعات الواقعة في أقصى الشرق. وبالمثل أصبحت اللغات القبطية والأرمنية والجورجية مهمة بين المتعلمين في مقاطعاتها. في وقت لاحق جعلت الاتصالات الخارجية من السلافونية الكنسية القديمة والبهلوية والعربية لغاتٍ مهمةً في الإمبراطورية ومجال نفوذها. كان هناك إحياء للدراسات اللاتينية في القرن العاشر للسبب نفسه، وبحلول القرن الحادي عشر لم تعد معرفة اللغة اللاتينية غريبةً في القسطنطينية. استُخدمت اللغة الأرمنية واللغات السلافية المختلفة على نطاق واسع، وتوضّح في المناطق الحدودية للإمبراطورية.
بصرف النظر عن هذه اللغات ونظرًا لأن القسطنطينية كانت مركزًا تجاريًا رئيسيًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط وما وراءها، فقد استُخدمت تقريبًا كل لغة معروفة في العصور الوسطى في الإمبراطورية في وقت ما، حتى الصينية. مع دخول الإمبراطورية في مرحلة الانهيار النهائي أصبح مواطنو الإمبراطورية أكثر تجانسًا ثقافيًا وأصبحت اللغة اليونانية جزءًا لا يتجزأ من هويتهم ودينهم مهنةٍ لإعالة أنفسهن كُنَّ يعملن عادةً خادمات في المنازل أو في المجالات المنزلية مثل صناعة المواد الغذائية أو المنسوجات. وكان يمكن للنساء العمل كطبيبات أو مرافقات للمريضات والزائرات في المستشفيات والحمامات العامة بدعم من الحكومة.
بعد دخول المسيحية لم تعد النساء قادرات على أن يُصبحنَ كاهنات، ولكن غدا من الشائع بالنسبة لهن أن يؤسّسن ويُدِرْنَ أديرة الراهبات التي كانت بمنزلة مصحّات ومدارس للفتيات، وكذلك البيوت الفقيرة، والمستشفيات، والسجون، ودور التقاعد الخاصة بالنساء، كما مارست عدة نساءٍ العمل الاجتماعي كأخوات علمانيات وشمّاسات. يُصبحنَ كاهنات، ولكن غدا من الشائع بالنسبة لهن أن يؤسّسن ويُدِرْنَ أديرة الراهبات التي كانت بمنزلة مصحّات ومدارس للفتيات، وكذلك البيوت الفقيرة، والمستشفيات، والسجون، ودور التقاعد الخاصة بالنساء، كما مارست عدة نساءٍ العمل الاجتماعي كأخوات علمانيات وشمّاسات.
العبودية في الإمبراطورية البيزنطية
شاعت العبودية في بدايات الإمبراطورية الرومانية والعصر الكلاسيكي اليوناني، وكانت قانونيّة في الإمبراطورية البيزنطية لكنها أصبحت نادرة بعد النصف الأول من القرن السابع. وتألفت طبقة العبيد بصفة رئيسية من أسرى الحروب، حيث اقتاد البيزنطيون العديد من الأسرى خلال حملاتهم العسكرية وجعلوهم عبيدًا، مثل أخذهم أكثر من ألف امرأة وطفل بعد أن استعادوا جزيرة كريت من المسلمين (عام 961). كما أصبح السلاف والبلغار مصدرًا رئيسيًا للعبيد بعد القرن العاشر.
كان معظم العبيد يعملون خدمًا في المنازل، وقد استُخدم العبيد كذلك للتجارة، حيث انتشرت أسواق الرقيق في العديد من مدن الإمبراطورية وبلداتها. ومن الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي صُدِّرَ العديد من العبيد السلاف إلى أجزاء أخرى من أوروبا. ومع أن الإخصاء كان ممنوعًا، إلا أن عدم تطبيق القانون أدى إلى انتشار المتاجرة بالخصيان في أنحاء الإمبراطورية. تغيرت وجهات النظر تحت تأثير المسيحية بخصوص الرق؛ فبحلول القرن العاشر أصبح يُنظر إلى العبيد على أنهم مواطنون وبشر مأمورون بدلًا من اعتبارهم ممتلكات خاصة ووسيلة للمتعة.
كما اعتُبرت العبودية «شرًا مخالفًا للطبيعة خلقته أنانية الإنسان». راجع الإمبراطور جستنيان خلال حكمه القانون الروماني القديم، واعترف بأن العبودية هي حالة غير طبيعية للوجود البشري وليست سمة من سمات القانون الطبيعي. ألغى جستنيان بعض القوانين القاسية التي طُبّقت على الرقيق، ومنحهم الحق في الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء، وعدَّ قتل السيد لعبده جريمةَ قتل. وفي عام 1095 منحَ الإمبراطور ألكسيوس الأول كومنينوس العبيد الحق في الزواج شرعيتين.
حدث تزاوج بين الثقافة الشرقية والحضارة الهلنستية مما دفع المؤرخين إلى تسميتها بالهيلينية الشرقية، وكان النتاج الفكري والفني داخل الإمبراطورية البيزنطية في الشرق آسيويًا أفريقيًا أكثر منه أوروبيًا، فلم يتجاوز مجمل النتاج الفكري في الولايات الأوروبية في الإمبراطورية أكثر من 10% من مجموع النتاج البيزنطي، وكانت أهم المراكز الثقافية في الإمبراطورية هي الإسكندرية في أبرشية مصر وأنطاكية وبيروت وقيسارية والرها في الأبرشية المشرقية وفي كبادوكيا. كانت الأبرشية المشرقية خلال العصور القديمة المتأخرة واحدة من من أهم مناطق الإمبراطورية تجاريًا وزراعيًا ودينيًا وثقافيًا. كما أن موقعها المواجه للإمبراطورية الساسانية والقبائل البدوية أعطاها أهمية عسكرية استثنائية.
عصر النهضة البيزنطي
شهد عصر النهضة البيزنطي -المعروف أيضًا باسم النهضة المقدونية- ظهورًا فلسفيًا وفنيًا وأدبيًا للثقافة الكلاسيكية الهلنستية بين عام 867 وعام 1056. امتد هذا الجانب الثقافي المركزي من الهيلينية في بيزنطة عبر الأساليب الفنية والمعمارية والوسائط التي استحوذ عليها البيزنطيون من العصور القديمة الهيلينية والأنماط الشعرية والمسرحية والتاريخية للكتابة والتعبير المرتبطة بالأدب اليوناني القديم والفلسفة اليونانية. يتضمن هذا الإحياء الكلاسيكي الجديد لمايكل بسيلوس وميله لأفلاطون والفلاسفة الوثنيين الآخرين.
عُرِّفت بيزنطة في كثير من الأحيان بالسياسة المطلقة، والعقيدة الأرثوذكسية، والمشرقية، والغرائبية، في حين استخدم مصطلحا «بيزنطي» و«البيزنطية» رمزًا للانحطاط، والبيروقراطية المعقدة، والقمع. ينظر غالباً كلٌ من المؤلفين الأوروبيين الشرقيين والغربيين إلى بيزنطة ككتلة دينية، وسياسية، وأفكار فلسفية مناقضة لتلك الغربية، بل إنه في اليونان خلال القرن التاسع عشر كان التركيز الأساسي على الماضي الكلاسيكي بينما ارتبطت التقاليد البيزنطية بدلالاتٍ سلبية.
كان هذا النهج التقليدي تجاه بيزنطة محل خلافٍ جزئي أو كليّ، ومراجعةٍ من قبل الدراسات الحديثة اللاتي يُركزن على المظاهر الإيجابية للثقافة البيزنطية والميراث البيزنطي. تعتبرُ أفريل كامرون أن المساهمة البيزنطية في تشكيل أوروبا القروسطية لايُمكن إنكارها، ويعترفُ كل من كامرون وأوبولينسكي بدور بيزنطة الرئيسي في تشكيل الأرثوذكسية الشرقية، والتي بدورها تحتل موقعاً مركزياً في تاريخ اليونان، ورومانيا، وبلغاريا، وروسيا، وجورجيا، وصربيا ومجتمعاتها، وكذلك لدولٍ أخرى. حافظَ البيزنطيون أيضًا على المخطوطات الكلاسيكية ونسخوها، لذا يُنظر إليهم على أنهم ناقلون للمعرفة الكلاسيكية، ومساهمون مهمون في الحضارة الأوروبية الحديثة، وسلفٌ لكل من عصر النهضة الإنسانية والثقافة الأرثوذكسية السلافية.
خلال العصور الوسطى حدث تبادل متكرر للأعمال بين العلوم البيزنطية والإسلامية. قدمت الإمبراطورية البيزنطية في البداية للعالم الإسلامي في العصور الوسطى نصوصًا يونانيةً قديمةً في علم الفلك والرياضيات والفلسفة لترجمتها إلى اللغة العربية حيث كانت الإمبراطورية البيزنطية المركز الرائد للمنح الدراسية العلمية في المنطقة في بداية العصور الوسطى.
بما أنها كانت الدولة الوحيدة طويلة الأمد في أوروبا خلال العصور الوسطى فقد عزلت بيزنطة أوروبا الغربية عن القوى الناشئة حديثاً في الشرق. كانت بيزنطة عرضةً للهجوم، وأبعدت أوروبا الغربية عن الفرس، والعربِ، والأتراك السلاجقة، ولمدةٍ من الزمن عن العثمانيين. من منظورٍ مختلفٍ ومنذ القرن السابع كان التطور وإعادة التشكيل المستمر للدولة البيزنطية مرتبطاً مباشرةً بتقدم الإسلام. بعد فتح القسطنطينية على يد الأتراك العثمانيين عام 1453 اتخذ السلطان محمد الثاني لقب «قيصر الروم» بما أنه كان مُصراً على جعل الإمبراطورية العثمانية وريثة الإمبراطورية الرومانية الشرقية. وفقًا لكامرون -بما أن العثمانيين اعتبروا أنفسهم ورثة بيزنطة- فقد حافظَوا على جوانبَ مهمةٍ من تقاليدها، والتي بدورها سهلت إحياء الأرثوذكسية خلال حقبة ما بعد الشيوعية في دول أوروبا الشرقية.
لا يزال الإرث الطقسي والأدبي والمعماري والموسيقي والفني والقانوني والثقافي البيزنطي ظاهراً وحيّاً في بطريركية القسطنطينية المسكونية وكنيسة الروم الأرثوذكس. تُعدّ بطريركية القسطنطينية المسكونية واحدة من أهم المؤسسات في العالم ولها دور بارز في التاريخ، بالإضافة إلى كونها واحدة من الموروثات الحضارية الرئيسيَّة الباقية للإمبراطورية البيزنطية، ويقع مقرها في كاتدرائية القديس جاورجيوس في حي فنار، وهو الحي التقليدي للمجتمع الرومي الأرثوذكسي بمدينة إسطنبول.
كيف انتهت الحضارة البيزنطية؟
نشأت الإمبراطورية البيزنطية نتيجة انقسام الإمبراطورية الرومانية، وفي حين سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس، استمرّت الدولة البيزنطية لأكثر من ألف سنة أخرى حتى سقطت بيد الدولة العثمانية عام 1453.
وهكذا انتهت الإمبراطورية البيزنطية كما انتهت الإمبراطورية الرومانية، وانتهت كذلك حلقة اليوم من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، على وعد بلقاء الأسبوع القادم، دمتم في آمان الله.
كتبت: مروة مصطفى