لمن يتابعنا للمرة الأولى، نلقي الضوء على ومضات تاريخية حول تاريخ الحضارة المصرية القديمة، لنعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بها وننهل من كنوزها.
منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة ونفتش عن الحضارة المصرية ونسرد ومضات تاريخية عن تاريخ الاسر المصرية القديمة.
فتحدثنا عن ومضات تاريخية للحضارة المصرية منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن ننزل إلى الأعماق.
وعرفنا معنى كلمة مصر وسبب تسميتها ومعنى المصطلحات المصرية القديمة، وكيف قرر المصري القديم أن ينشأ امبراطورية حقيقية تديرها حكومة مركزية، وأن يأسس جيشًا قويًا يردع بقوته كل طامع وغاصب.
كما تحدثنا عن تفاصيل الأسر المصرية حتى الأسرة السادسة والعشرون وعرفنا ملوكها وملكاتها. نستكمل اليوم الحديث ونلقي الضوء على ومضات تاريخية في تاريخ الأسرة السابعة والعشرون.
في سلسلة المقالات السابقة وهذه المقالات من ومضات تاريخية مضيئة حول الأسر المصرية وكما اتفقنا في السابق سنطلق على الملوك المصريين لقب الملوك لكن غير المصريين سنلقبهم بالفراعنة ما عدا السهو والخطأ.
الأسرة المصرية 27
في هذه الحلقة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة نستأنف الحديث عن الأسر المصرية واليوم موعدنا مع الأسرة 27 ويُرمز لها الأسرة XXVII، وتُعرف أيضاً بإسم الساتراپي المصرية الأولى كانت فعلياً مقاطعة (ساتراپي) في الامبراطورية الفارسية الأخمينية بين 525 ق.م. و 404 ق.م. وقد أسسها قمبيز الثاني، ملك فارس، بعد فتحه مصر وتتويجه إثر ذلك ملكا لمصر. وقد انحلت تلك الأسرة السابعة والعشرين بمجرد تمرد وتتويج أميرتايوس فرعوناً.
آخر ملوك الأسرة السادسة والعشرين، پسماتيك الثالث، هزمه قمبيز الثاني في معركة پلوزيوم شرق دلتا النيل بالقرب من بورسعيد الحالية في مايو 525 ق.م.. وتـُوِّج قمبيز ملكا على مصر في صيف نفس العام، لتبدأ أول فترة من الحكم الفارسي لمصر (وتُعرف بإسم الأسرة السابعة والعشرين). واندمجت مصر حينئذ مع قبرص وفينيقيا ليشكلوا الساتراپي السادسة في الامبراطورية الأخمينية، مع تعيين أرياندس الساتراپ (حاكم الإقليم).
كملك لمصر، شهد عهد قمبيز انخفاض كبير للموارد المالية للمعابد المصرية المصرية. أحد مرسوماته، مكتوب على بردية بالخط الديمقوطي أمر بوضع حد على النفقات لكل المعابد المصرية، باستثناء منف، أون و ونخم (بالقرب من أبوصير). وقد غادر قمبيز مصر تقريباً في مطلع عام 522 ق.م.، ليموت في طريقه إلى فارس. وقد خلـَفه إسمياً لفترة وجيزة شقيقه الأصغر برديا، بالرغم من أن المؤرخين المعاصرين له يقترحون أن برديا كان في الواقع گئومات، المنتحل، وأن برديا الحقيقي قد قـُتـِل قبل بضع سنوات على يد قمبيز، غالباً بسبب الغيرة.
داريوش الأول
فطن لذلك الانتحال، فقاد انقلاباً ضد “برديا” في سبتمبر من ذلك العام، مطيحاً به وتـُوِّج ملكاً في الصباح التالي. كملك فارسي جديد، أمضى داريوش معظم وقته في إخماد التمردات في أرجاء الامبراطورية. وفي أواخر عام 522 ق.م. أو مطلع 521 ق.م. قاد أمير محلي مصري تمرداً وأعلن نفسه الملك پتوباستيس الثالث. السبب الرئيسي لهذا التمرد غير أكيد، ولكن المؤرخ العسكري اليوناني القديم پوليانوس يقول أن السبب كان الضرائب الباهظة المفروضة من الساتراپ أرياندس.
ويستفيض پوليانوس أن داريوش زحف بنفسه على مصر، ليصلها أثناء فترة حداد على وفاة الثور المقدس رسول پتاح. وقد أصدر داريوش إعلاناً أنه سوف يمنح مكافأة قدرها مائة تالنت للشخص الذي يمكنه جلب رسول جديد، مما ترك أثراً طيباً في نفوس المصريين لتقواه، حتى أنهم انضموا زرافات لجانبه، لنتهي التمرد.
أولى داريوش اهتماماً كبيراً للشئون الداخلية لمصر، أكثر من قمبيز. فشرّع قوانين لمصر، وأكمل حفر نظام قنوات في السويس، يسمح للسفن بالمرور من البحيرات المرة إلى البحر الأحمر، وهو مسار أفضل من سلوك الطريق البري في الصحراء الجرداء. هذا الانجاز سمح لداريوش باستيراد العمال المهرة والحرفيين المصريين لتشييد قصوره في فارس.
وقد أدى ذرع لنزيف أدمغة في مصر، بسبب خسارة أولئك العمال المهرة، مما أسفر عن انخفاض ملموس في نوعية العمارة والفن المصريين من تلك الفترة. إلا أن داريوش أكثر اهتماماً بدعم المعابد المصرية عن قمبيز، مما أضفى عليه سمعة التسامح الديني في المنطقة.
وفي 497 ق.م.، أثناء زيارة قام بها داريوش لمصر، أُعدِم أرياندس بتهمة الخيانة، غالباً لمحاولته إصدار عملة عليها صورته، وهي محاولة واضحة لإبعاد مصر عن باقي الامبراطورية الفارسية. وقد توفي داريوش في 486 ق.م.، وخلـَفه خشايارشا الأول. وذلك بحسب مصادرنا في سلسلة غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
خشايارشا الأول
وبمجرد ارتقاء خشايارشا العرش، تمردت مصر مرة أخرى، هذه المرة بقيادة پسماتيك الرابع، وبالرغم من أن المصادر تختلف على تلك التفصيلة. وسرعان ما أخمد خشايارشا التمرد، منصـِّباً شقيقه أخيمينس كساتراپ. وقد أنهى خشايارشا الوضع التفضيلي لمصر في عهد داريوش، ورفع قيمة الجزية الواجب تحصيلها من مصر، ربما لتمويل غزوه اليونان. وبالاضافة لذلك فقد روّج خشايارشا للإله الزرادشتي أهورا مزدا على حساب الآلهة المصرية التقليدية، وأوقف إلى الأبد تمويل إنشاء تماثيل مصرية. وقد أغتيل خشايارشا في 465 ق.م. على يد أرتابانوس، ليبدأ صراع في الأسرة الحاكمة انتهى بتتويج أردشير الأول ملكاً.
وفي 460 ق.م. نشب تمرد مصري آخر، بقيادة زعيم ليبي اسمه إيناروس الثاني، بمساعدة معتبرة من أثينيي اليونان، وقد ألحق إيناروس الهزيمة بجيش يقوده أخيمينس، وقتل الساتراپ أثناء التمرد، واستولى على منف، ثم أصبح مسيطراً على أجزاء شاسعة من مصر.
وأخيرًا انهزم إيناروس وحلفاؤه الأثينيون أمام جيش فارسي بقيادة الجنرال مگابيزوس في 454 ق.م. وبالتالي تقهقر. وقد وعد مگابيزوس إيناروس ألا يلحق به ضرر إذا ما استسلم للسلطات الفارسية، وهو ما وافق عليه إيناروس. إلا أن أردشير سرعان ما أعدم إيناروس، بالرغم من أن طريقة الإعدام وتاريخه هما موضع خلاف، وقد توفي أردشير في 424 ق.م.
خشايارشا الثاني
حكم فقط لمدة خمساً وأربعين يوماً، إذ قتله شقيقه صغديانوس. إلا أن صغديانوس بدوره قد أغتيل على يد شقيقه أوخوس، الذي أصبح داريوش الثاني، حكم داريوش الثاني من 423 ق.م. إلى 404 ق.م.، وبالقرب من نهاية عهده نشب تمرد بقيادة أميرتايوس، ولعله بدأ في 411 ق.م.
وفي 405 ق.م. قام أميرتايوس، بمساعدة من مرتزقة كريتيين، بطرد الفرس من منف، معلناً نفسه ملكًا في العام التالي ومنهياً الأسرة السابعة والعشرين. خليفة داريوش الثاني، أردشير الثاني وسنتحدث عنه في السطور التالية من هذه الحلقة من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
أردشير الثاني
قام بمحاولات لحشد تجريدة لاستعادة مصر، ولكن بسبب صعوبات سياسية مع شقيقه قورش الأصغر، فقد تخلى عن ذلك الجهد. وظل أردشير الثاني مُعترَفاً به ملكًا شرعيًا في أجزاء من مصر حتى 401 ق.م.، بالرغم من أن رد فعله البطيء للموقف سمح لمصر أن ترسخ استقلالها. وأثناء فترة الحكم المستقل، حكمت ثلاث أسر محلية: الأسرة الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والثلاثون. أردشير الثالث (358 ق.م.) أعاد احتلال وادي النيل لفترة ثانية قصيرة (343 ق.م.)، والتي تسمى الأسرة الحادية والثلاثون.
إلى هنا نكتفي بهذا القدر من ومضات تاريخية حول الحضارة المصرية القديمة، على وعد بلقاء الأسبوع القادم. دمتم في أمان الله.
كتبت: مروة مصطفى