منذ بداية العالم وضُخ دم البشرية في عروق الحياة، خرجت للدنيا حضارة تعد عالما قائما بذاته، غيرت مجرى التاريخ ورسمت ملامح عظمتها على وجه الزمن، وكنا وما زلنا وسنظل نفخر بها حتى النهاية، ودائما نكون غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
نبذة عن سلسلة غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة
لمن يتابعنا للمرة الأولى، نعرفكم بهذه السلسلة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، فقد قررنا في الداديز أن نعرف الجيل الجديد ونذكر بقية الأجيال بهذه الحضارة العريقة الخالدة.
فتحدثنا منذ البداية أي قبل أن يحفر المصري القديم مكانته بين البشر، وينطلق لأعنان السماء معلنا عن بداية ليس لها نهاية، من عبقرية وتحدٍ وقدرة على الإبداع لم يعرف لها العالم سر بعد، وقررنا أن نأخذ دور غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة وننزل إلى الأعماق.
وعرفنا معنى كلمة مصر وسبب تسميتها ومعنى المصطلحات المصرية القديمة، وكيف قرر المصري القديم أن ينشأ امبراطورية حقيقية تديرها حكومة مركزية، وأن يأسس جيشا قويا يردع بقوته كل طامع وغاصب.
كما تحدثنا عن تفاصيل الأسر المصرية حتى الأسرة السادسة وعرفنا ملوكها وملكاتها، واليوم نستكمل معكم هذه الحلقات من غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة، ونتحدث اليوم عن الأسرتان التاسعة والعاشرة.
الأسرتان التاسعة والعاشرة
كان مقر الأسرتين التاسعة والعاشرة مدينة هيراكليوبوليس، وهي المعروفة الآن باسم إهناس المدينة، ويظن بعض المؤرخين أن ملوكها من أصل لوبي، وأنهم غزوا مصر عن طريق الفيوم حتى وصلوا إلى مدينة إهناس واتخذوها عاصمة لملكهم؛ لما لها من ماضٍ مجيد من الوجهة التاريخية والمكانة الدينية.
فضلًا عن أنها كانت أعظم مدينة صادفتهم أثناء زحفهم على البلاد، وأهم حاضرة في وسط القطر، والواقع أن مدينة إهناس كانت حاضرة ملوك الوجه القبلي (نسوت) قبل توحيد الأرضين. هذا إلى أنها كانت من أقدم المواطن المقدسة في البلاد، إذ يعزى إليها حسبما ذكر في التقاليد الدينية والأساطير أن الإله «شو» إله الفضاء قد رفع في هذه المدينة السماء عن الأرض، وكانتا رتقًا آنذاك، وجعل الأرض يابسًا، وكذلك جاء في الأساطير الدينية أن الإله رع «إله الشمس» أرسل إلى هذه المدينة الإلهة «سخمت» إلهة الحرب لتهلك بني الإنسان بسبب عصيانهم وثورتهم على هذا الإله المسن.
يضاف إلى ذلك أنه جاء في الأقاصيص الدينية أن الإله «أوزير» والإله «حور» ابنه قد تُوِّجا ملكين على البلاد في هذه المدينة، وقد ذكر كذلك في كتاب الموتى في الفصل ١٢٥ أن أحد القضاة الاثنين والأربعين الذين يحاكمون الموتى في قاعة الحساب ويدعى «كاسر العظام» أصله من هذه البلدة، وأول ملك تولى عرش الأسرة التاسعة في إهناس هو «خيتي الأول» وقد كانت له شهرة سيئة في التاريخ.
حسبما جاء في الروايات التي رواها لنا عنه «مانيتون» المؤرخ المصري، ومن بعده المؤرخ الإسكندري إرستاتونيس، فقد ذكر الأول أن من بين الملوك التسعة عشر الذين حكموا في إهناس نحو ٤٠٩ سنة كان «أختبوي خيتي»، هذا أسوأ أسلافه، وقد أنزل الضرر بكل سكان مصر، وانتهى أمره بأن جن جنونه واغتال حياته تمساح، وهذا مثل صارخ من العدالة الإلهية إذا كان حقًّا «حيتي» كما صوره لنا المؤرخون.
أما «أرستاتونيس»، فإنه يروى أن الملك السابع والعشرين من ملوك طيبة الذي يطلق عليه اسم «خوتورتوروس» العاتي حكم سبعة أعوام (حوالي عام ٣٦٦٣ق.م) وقد ارتكب في خلالها مظالم كثيرة، ولا نزاع في أن «خيتي» الذي عثرنا على اسمه في النقوش هو نفس «أختيوس» الذي ذكره «مانيتون»، غير أنه ليست لدينا وثائق تاريخية تؤكد لنا ما وصفه به «مانيتون» ونسبه إليه زميله من الأعمال، ولكن حوادث التاريخ تعلمنا أن العظماء الذين يقومون بتأسيس دولة باغتصاب عرش غيرهم لا يبالون بمن يعترضهم في طريقهم، ولا يقيمون وزنًا للمظالم التي يرتكبونها في سبيل الوصول إلى أغراضهم وفتح طريق الفلاح أمامهم.
خيتي وملكه في إهناس
ولا غرابة إذا كان «خيتي» ظهر بهذا المظهر الوحشي عند تأسيس ملكه في إهناس، ولا غرابة كذلك إذا كان هذا الملك قد أحاط نفسه بهالة من الخوف والفزع حتى لا يقترب أحد منه أو يجرؤ على منازعته، ومما يؤسف له أن بعض أخلافه لم يكن فيهم شيء يذكر من قسوته وفظاظته.
بل على العكس كانوا على جانب عظيم من التقى والصلاح كما سنرى، وإذا كان «خيتي» الذي نحن بصدده الآن هو نفس «نب كاو رع خيتي» الذي ذكر في قصة شكاوى الفلاح، فإنه بلا شك كان يمتاز بالنكات وحب المزاح، وربما كان للمؤرخ «مانيتون» عذر في وصفه بما وصفه به؛ إذ في قصة الفلاح كان الملك يقصد المزاح في شدته معه، ولكن القوم كانوا يرون في ذلك شدة وعنفًا وظلمًا حقيقيًّا.
غير أن ذلك لم يحقق، بل يعده بعض المؤرخين آخر ملوك هذه الأسرة، وما يؤسف له جد الأسف أنه لا يمكننا أن نعطي رأيًا قاطعًا في ترتيب ملوك «إهناس» خلال الأسرة التاسعة، ولكن المعترف به مؤقتًا أن خيتي الأول هو «مري إيب رع»، وقد حكم نحو ٢٢ عامًا (٢٢٤٢–٢٢٠٠ق.م) حسبما وصلت إليه معلوماتنا إلى الآن، غير أن البلاد كانت في ارتباك ومشحانات من طرفيها.
ولم يكن في مقدور ملك إهناس أن يقبض على زمام الأمور بعزم وحزم، فكانت الدلتا كما ذكر لنا «خيتي الثالث» عندما كان ينصح ابنه «خيتي الرابع» في حال سيئة ولم يكن في مقدور «خيتي الثالث» عندما كان ينصح ابنه «خيتي الرابع» في حال سيئة، ولم يكن في مقدور «خيتي الثالث» إلا أن يهدئ الأحوال بعض الشيء بعد جهد جهيد، وقد واتاه الحظ في الدلتا فنجح في التغلب عليها، أما في الجنوب فكان حظه عاثرًا.
والواقع أن سلطان ملوك «إهناس» كان ضئيلًا، بل منعدمًا، فيما خلف حدود مدينة «طينة» وبلدة «العرابة» المدفونة، وكذلك كان نفوذه في شمال طيبة نفسها ضعيفًا، ويرجع ذلك إلى أن الأمراء المحليين في أسيوط وإن كانوا يدينون بسلطان ملوك «إهناس» إلا أنهم كانوا في الواقع أعظم منهم قوة وأعز نفرًا، وكانوا يعملون جهد طاقتهم على حفظ كيان الملك الذي أخذ في التداعي والانهيار، وقد خلف لنا أمراء أسيوط الذين نحن بصددهم وثائق تاريخية هامة عن هذا العصر نقشوها على مقابره الضخمة.
ومن بين هذه النقوش ثلاثة خاصة بالعصر الذي نتكلم عنه الآن، ومما يؤسف له أننا لم نوفق إلى الآن لترتيب هذه النقوش حسب مكانها في التاريخ، ولكن الظاهر أن الأمير الذي كان يقال بأنه «خيتي الثاني» (كان أمراء أسيوط في هذا الحين يطلق على كل منهم اسم خيتي تيمنًا بأسماء ملوك إهناس) هو صاحب النقش الأول، ولذلك يعتبر أول الأمراء الثلاثة، ثم تبعه «تف إيب» ثم «خيتي الثاني»، ومهما يكن من أمر فإن نقوش «خيتي الثاني» تنبئنا عن عصره بأنه كان عهد رخاء وهدوء وسكينة مما جعله فريدًا في زمن هذه الأسرة حتى ختامها.
وقد حثنا النقوش أن أمير مقاطعة أسيوط قد تربي وترعرع مع أولاد الملك، وذكرت لنا بعض التفاصيل الغربية، فيقول هذا الأمير: «إن الملك أمر بتعليمي السباحة مع أطفاله»، وقد ذكر لنا أنه كان له جيش وأسطول مؤلف من سفن عظيمة، وقد جعلها في خدمة مليكه كلما اقتضت الأحوال ذلك، وأنه قام بأعمال مجيدة لمقاطعته، وأن البلاد أثرت في عهده؛ إذ يقول: «إن أسيوط كانت مرتاحة مطمئنة لإدارتي، ودعا الإله لي أهل إهناس.».
أما «خيتي الثاني» ملك البلاد فلا نعلم عنه شيئًا إلا أنه مات في سلام ودفن في قبره. تولى بعده الملك «خيتي الثالث» ومنذ اعتلائه أريكة البلاد قام بينه وبين أحد البيوتات الكبيرة في الجنوب نزاع كان له خطره عليه وعلى أخلافه، بل وعلى مستقبل البلاد المصرية والعالم المتحضر في تلك الفترة، وقد كان مقر حكومة هذا البيت العظيم الذي ظهر في الجنوب بلدة طيبة، وكان حاكمها في هذا العهد في الغالب هو «أنتف العظيم» (أنتف عا) ابن «أنتف الأول» مؤسس هذا البيت.
الحاكم الحقيقي للمقاطعات الجنوبية
وكان «أنتف الأول» هذا هو الحاكم الحقيقي على المقاطعات الجنوبية لمصر وإن لم يكن يدعي لنفسه لقب الملوك، والواقع أنه كان يحمل عدة ألقاب عظيمة وهي: النبيل بالوراثة حاكم مقاطعة طيبة، والذي يشبع كل أغراض الملك، وحارس بوابة الحدود، وعمود الجنوب، والحاكم الإداري، والذي جعل كل أراضيه تحيا، ورئيس الكهنة، وهذه الألقاب كانت تمنح لكثير من عظماء الدولة المخلصين، وليس لدينا من المعلومات ما يحملنا على الظن بأن «أنتف» هذا كان غاضبًا على الفرعون أو خارجًا عليه، وبخاصة بعد أن علمنا أنه يحمل لقب «الذي يشبع كل أغراض الملك».
ورغم ذلك فإن ظواهر الأحوال كانت تدلنا على أنه ذو قوة عظيمة كما نشاهد ذلك في «خيتي الثاني» أمير أسيوط، وربما كان الفرق بين الأميرين أن «خيتي» أمير أسيوط كانت تربطه رابطة شخصية بملك إهناس؛ إذ تربَّيا معًا في البيت الملكي، أما الثاني فكان لا رابطة بينهما إلا ما يوجد بين الملك وأحد أمراء مقاطعاته، وفي الحق أنه لم يكن هناك ما يدعو أمير طيبة للخضوع لملك البلاد، ولذلك كان يتحين الفرص ليشق عليه عصا الطاعة ويعلن استقلاله، ولم يكن ذلك ليحدث إلا على يد أمير طموح.
وقد حانت الفرصة فعلًا عندما تولى «أنتف العظيم» حكم طيبة، وكان توَّاقًا للمعالي والعظمة كما يشعر اسمه بذلك، وكانت طيبة في هذا العهد تشغل مكانة ضئيلة من حيث الشهرة بالنسبة لما وصلت إليه فيما بعد، فكان سكانها في درجة منحطة من حيث الثقافة إذا ما قرنت بالمدن الشمالية منها التي كانت دائمًا على اتصال بالحركة العلمية في عهد الدولة القديمة.
وكان لا بُدَّ أن تتغير هذه الحال، وفعلا بدأت في مراقي التقدم حتى وصلت إلى درجة من الحضارة لم تبلغها مدينة مصرية في كل عصور التاريخ المصري إلى أن تدهورت البلاد وضاع استقلالها، ومن المحتمل جدًّا أنه لم يمضِ زمن طويل على تولي «أنتف العظيم» حتى قامت المشاحنات بين ملوك إهناس وبين أمراء طيبة.
الصراع بين ملوك إهناس وأمراء طينة
وقد بدأ النزاع من جانب الملك كما ذكر لنا «خيتي الثالث» مظهرًا أسفه وحزنه على ما بدر منه، وإن كان كل هذا قد حدث عفوًا ولم يشعر بنتائجه حتى حلت الكارثة، وقد استقينا معلوماتنا عن هذا الحادث من تعاليم الملك «مري كا رع» نقلًا عن بردية تدعي ورقة «بطرس برج»، ويرجع تاريخ كتابتها إلى حوالي عام ١١١٦ق.م.
وهذه البردية قد وصلت إلينا منقولة عن نسخة يرجع تاريخها للأسرة الثامنة عشرة، وقد عزى المؤرخون تأليف هذه التعاليم إلى الملك «خيتي الثالث»، وقد كتبها ينصح بها ابنه «خيتي الرابع» ويملي عليه تجاربه حتى تكون درسًا له، وفي هذه الوثيقة نجد إشارتين إلى سبب النزاع الذي قام بين «خيتي» ملك إهناس وأمير «طينة» الذي كان يعد من رعاياه في الظاهر، ففي الإشارة الأولى نجد «أن مصر تحارب في الجبانة وتخرب المقابر … وقد فعلت ذلك نفسي، وقد حدث ذلك فعلًا، وهذه إشارة إلى انتهاك حرمة المقابر.
ولا بد أنها تشير إلى مدينة «طينة» المقدسة، ويقول عنها الملك: «إنني استوليت عليها بالهجوم كالصاعقة.» وبعد ذلك بقليل يقول خيتي: «تأمل لقد حلَّت في زمني كارثة خرَّبت أحياء «طينة». وقد حدث ذلك فعلًا، وقد كنت أنا السبب، وقد أحسست بجرمي بعد أن اقترفته، وكان ذلك من سيئاتي، فاحذر ذلك؛ لأنه من عمل سيئة يجزى مثلها.»
والواقع أننا لا نعلم ما جرى بالضبط؛ لأن المتن غامض، ولكن يمكن أن نقرأ بين السطور ما يأتي: كان كل من «خيتي» ملك إهناس و«أنتف» العظيم أمير طينة يدعي لنفسه السلطان على «طينة» و«العرابة» المدفونة التي تتاخمها، فكان الملك يؤازره «تف إيب» أمير أسيوط يعتقدان أن هاتين البلدين يعدَّان حصن باب الجنوب لأملاكهما.
أما «أنتف العظيم» فكان يراهما الباب المؤدي إلى الشمال لأملاك الملك، ومن المحتمل جدًّا أنه قد قامت بعض مشاحنات بين القابضين على إدارة تلك الجهة من كِلَا المتعاديين، مما أدَّى إلى نشوب حرب، وجعل «خيتي» يشير في تعاليمه لابنه عن هذا الحادث المؤلم. إذ كانت نتيجته أن نهبت المقابر الفرعونية المقدسة التي كانت في تلك الجهة، وقد حزن «خيتي الثالث» لإرساله الجنود الذين ارتكبوا تلك الفظائع.
وقد شعر بجرمه غير أنه لم يكن يعلم الحقيقة إلا بعد وقوعها، ولا غرابة فإن كل البلاد لا بُدَّ قد ارتاعت من تخريب الأماكن المقدسة التي كانت تعد أقدس بقعة دينية في البلاد المصرية قاطبة، وقد انتهز «أنتف» هذه الفرصة للكيد لعدوه؛ إذ حمَّله مسئولية تخريب الأماكن المقدسة ونهبها على جنوده وأعوانه، مما أشعل نار الغضب في قلوب الرأي العام ضد «خيتي» مناهضه.
ومن هذا العهد نجد أن «أنتف» أخذ يحمل لقب «حور» الملكي فسمى نفسه «حور واح عنخ أنتف عا»، وقد قام «أنتف العظيم» هذا بحملة نيلية في أسطول سار به شمالًا مظهرًا العصيان الصريح ضد فرعون البلاد، وكذلك لينتقم لنفسه وشرفه ودينه، ولكن محاولته هذه كان مآلها الفشل التام.
وفي ذلك يقول أمير أسيوط: إن أول مرة حاربت فيها جنودي المقاطعات الجنوبية طاردوا فيها الأعداء إلى أقصى الحدود الجنوبية، وعندما وصلت إلى المدينة هزمت العدو وأقصيته حتى حصن باب الجنوب.
وقد حاول قائد «أنتف العظيم» كرة أخرى أن يغير على بلاد الفرعون فكان نصيبه الفشل التام والهزيمة المنكرة، وقد قصَّت النقوش علينا ذلك نقلا عن أمير أسيوط عضد الملك الأعظم؛ إذ يقول: وقد جاء آخر كأنه الفهد المفترس بجيش ثان مؤلف من أحلافه، فخرجت لملاقاته ولم أَتَوَانَ لحظة عن منازلته في سفني.
وقد حاولت استخدام ريح الشمال وريح الجنوب وكذلك الريح الشرقية والريح الغربية حسب الأحوال الجوية، وقد انتهت هذه الحرب بأن غرق العدو وسفنه في النيل، وكانت جنوده تفر كالثيران عندما تهاجمها الحيوانات الوحشية رافعة ذيولها إلى الأمام.
وتعد هذه الموقعة الأولى من نوعها في المواقع البحرية في التاريخ، ولا غرابة إذا كان أمير أسيوط يفخر بها، والواقع أن أهالي الصعيد كانوا في حاجة ماسة إلى رجل قوى الشكيمة ليصدهم ويكبح جماحهم ويذيقهم الذل والهوان.
وقد قيَّض الله لهم «أنتف عا» (أنتف العظيم) في حينه، وقد كان من سوء طالع «تف إيب» وسيده فرعون إهناس أن أمير طيبة لم يخضع لهما حتى بعد أن هزم في الواقعتين السالفتين، بل سار بجيشه شمالًا كرة أخرى، وفي هذه المرة يقص علينا «أنتف عا» ما حدث بنفسه؛ إذ يقول: لقد جعلت حدودها الشمالية (أي مملكته) حتى إطفيح، وقد رسوت بسفني عند الوادي المقدس واستوليت على كل مقاطعة «طينة» وفتحت معاقلها، وجعلتها باب الشمال لأملاكي بعد أن كان «تف إيب» قد اتخذ منها حصنًا لباب الجنوب بالنسبة لأملاك فرعون إهناس.
أما «خيتي الثالث» فكان لا يزال يشعر بوخز ضميره، وكانت ترتعد فرائصه في قصره بإهناس كلما فكر في جرم انتهاك حرمة الأماكن المقدسة، وبخاصة إذا علمنا أنه كان رجل تقى وورع. ولقد ظهر أثر ذلك في تعاليمه لأبنه؛ إذ يقول: «إن الضربة تقابل بمثلها»، والواقع أنه ربما كان يظن أن «أنتف عا» قد قابل فعلة «خيتي» بمثلها واستفاد منها أيضًا، وهذا ما يقرره الواقع؛ إذ نرى أن «خيتي» قد فقد سلطانه على بلاد «أنتف العظيم»، وفي الوقت نفسه كان يشعر بالآلام نسبة لما أحاق ﺑ «طينة» و«العرابة» من التخريب والنهب.
يضاف إلى ذلك أن هذه البقاع المقدسة أصبحت مغلقة في وجهة، وكان لزامًا على كل مصري بعد موته أن يحج إلى تلك الأماكن المقدسة التي كانت تعد بمثابة طريق إلى الجنة في السماء، وقد أحزنه حرمانه ذلك ولكنه رضي الواقع، وعدَّه عقابًا من الإله على ما ارتكبه في حياته ضد هذه البقعة الطاهرة المقدسة، ومن المدهش أن الملك «حور واح عنخ أنتف عا» لم يتقدم في سيره في الغزو بعد استيلائه على «طينة» و«العرابة».
وربما يعزى ذلك إلى أنه كان من الرجال العظماء الذين لا يغالون في أطماعهم، ويعرفون متى يجب أن يقفوا عند حدودهم، وقد كان صمم على أن يمحو عن نفسه عار انتهاك حرمة الأماكن المقدسة حتى بعد أن هزم دفعتين، والآن وقد واتاه الحظ وانتصر على عدوه نصرًا لم يكن يحلم به، فعقد معه صلحًا وكفَّ عن دفع الجزية التي كان يحملها سنويًّا للملك في إهناس، وسمح له أن يستخرج ما يلزمه من حجر الجرانيت من محاجر أسوان التي كانت ضمن المقاطعات التي تحت سلطانه.
وقد رضي بذلك «خيتي الثالث»، ونصح لخلفه بأن لا يهاجم عدوًّا أقوى منه وأكثر بطشا وسلطانًا، وقد أشار إلى ذلك مرات عدة في تعاليمه. إذ يقول: لا تخلقن أسباب عداء بينك وبين الأرض الجنوبية؛ لأنك تعلم ما تنبأ به مقر الملك من هذه الناحية، وقد يحدث ذلك كما حدث فعلا (أي هزيمة نفسه).
ويضيف: كن لين الجانب معها لأن ذلك خير للمستقبل، كن على وئام مع الأرض الجنوبية وبذلك يأتي اليك القوم محملين الهدايا، وقد قفيت في ذلك أثر الأجداد، ورغم أنه ليس لديها ما تقدمه لك من القمح فإنه من الخير أن تبقى وأن يظهر أهلها لك الضعف والاستكانة، واقنع بما عندك من خبز وجعة، (أي لا تحرك هؤلاء القوم ضدك للشر بجعلهم يدفعون اليك الجزية) هذا إلى أن الجرانيت الأحمر يأتي إليك دون عائق، (أي يجب عليك أن تحمد الله على هذا لأنه في يدهم).
ومن المدهش أننا نرى أن هذا الملك المسن يشير في تعاليمه إلى عادة كانت فاشية في مصر في كل عصورها، وكانت تعد من أكبر الجرائم التي كان يقترفها الفراعنة والأفراد على السواء، وأعني بذلك أن يُستولى على ما قام به الملوك وغيرهم من علية القوم من المباني والمخلفات التي كانت كمقابر أو معابد لهم دون مراعاة حرمة في ذلك، ولعمري لو كانت نصيحة الفرعون «خيتي» هذه قد أصغى إليها أخلافه لتغير وجه التاريخ المصري تغيرًا عظيمًا من الوجهة «المعمارية» والتاريخية، فكم من مبانٍ عظيمة اختفت نهائيًّا.
وكم من وثائق تاريخية كانت منقوشة عليها ضاعت إلى الأبد، ولو وعى مثل هذه النصيحة «رعمسيس الثاني» ومن بعده «منفتاح» ابنه لعرفنا كثيرًا من تاريخهما على الوجه الحق، فيقول: «خيتي»: «لا تعتدين على آثار غيرك، بل اقطع لنفسك أحجارًا من طرة، ولا تشيدن قبرك من أنقاض غيرك.» ولكن «خيتي» كان رجلًا عاقلًا حنكته التجارب مفعم قلبه بالتقى، ولم يكن نداؤه هذا إلا صوت رجل ينادي في الصحراء ولم يعمل به أحد.
فمضى الأمير والملك كل في طريقه يخرِّب وينهب معابد أسلافه ومقابرهم كلما دعت مصلحة إلى ذلك. بعد أن برأ «خيتي» نفسه أمام ربه من الذنوب التي ارتكبها في الوجه القبلي أخذ ينصح ابنه شارحًا الحالة التي كانت عليها أجزاء البلاد الأخرى، والواقع أنه وإن كان قد أساء التصرف في الجنوب إلا أنه عزَّى نفسه بتحسين الأحوال في الدلتا؛ إذ يقول: لقد هدأت كل الجهات الغربية إلى حافة البحيرة، وكذلك ساد الأمن الجهة الشرقية من الدلتا، حيث كانت الأحوال قد ساءت فقسمتها مراكز ومدنًا، وأصبحت السلطة التي كانت في يد حاكم واحد في أيدي عشر
الظاهر أن أمراء الدلتا وأشرافها الذين كانوا يشعرون بقوة أكثر مما يجب قد أخضعوا)، فصاروا يقدمون الآن كل أنواع الضرائب، وأصبح الكهنة يملكون الحقول، والضرائب تجبى لك دفعة واحدة، ولن يحدث أن يأتي أعداء أشرار، ولن يأتي النيل منخفضًا فتتأثر البلاد بسببه، وسيكون لك محصول بلاد الدلتا.
أما في شرق الدلتا فإن الملك المسن كان يشعر أنها آمنة مطمئنة بعض الشيء، وما ذلك إلا بفضل الميزات الخاصة التي كان يمتاز بها العرب الرُّحَّل، وكانت هذه الصفات سليقة في نفوسهم، وما زالت منذ القدم باقية فيهم لم يطرأ عليها أي تغيير إلى يومنا هذا؛ إذ يقول: «تأمل لقد وطدت سلطاني في الشرق فصارت الحدود من «هيتو» إلى ممر «حور» معمورة بالمدن الآهلة بالسكان من صفوة رجال البلاد وخيرتها وما ذلك إلا ليصدوا غارة الآسيويين.
وقد ذكر هذا كذلك للأقوام المتبربرين: «إن الآسيوي الخاسئ أينما حل يتبعه الشقاء في الأرض التي يحل بها حيث الماء الآجن ولا يمكن المرور في أرضه بسبب كثرة أشجارها، وكذلك الطرق فإنها وعرة بسبب جبالها، وهو لا يسكن في مكان واحد، بل يرخي لساقيه العنان، ومنذ أقدم العصور فإنه يحارب ولكنه لا يهزم ولا يهزم ولا يعلن اليوم الذي سيشن الغارة فيه»، ولعمري ليس هناك وصف أدق لأهل البادية من وصف «خيتي» لهم في هذه الجمل الموجزة.
وقد هدأ «خيتي الثالث» في نصائحه روع ابنه «خيتي الرابع» من جهة قوة أهل البادية الضعيفة الأثر في إلحاق الضرر والأذى؛ إذ يقول: لا تتعبن نفسك من جهته؛ (البدوي)، فإنه لا ينهب إلا مسكنًا منعزلًا، وليس في مقدوره أن يستولي على مدينة آهلة بالسكان.
ولقد كان الجنوب في الواقع هو مصدر الخطر الذي يهدد الملك المسن باستمرار؛ إذ كان يعتقد أن أية ثورة تقوم ضده في مصر الجنوبية ستقضي قضاء عاجلًا على كل الأعمال العظيمة التي قام بها في الدلتا، اللهم إلا إذا اتخذ العدة في الدلتا نفسها، وقد كان فعلًا بعيد النظر من هذه الوجهة؛ إذ أقام عدة مدن محصَّنة، الغرض منها كبح جماح أي إقليم يقوم بثورة أو عصيان.
وقد كتب لابنه في نصائحه مشيرًا إلى ذلك فيقول: إذا قامت بلادك من جهة الجنوب بثورة فإن ذلك يكون حافزًا لقيام الأجانب في الشمال بحروب ضدك، فعليك إذن أن تقيم مدنًا في الدلتا، ولا يكون اسم الرجل صغيرًا بما فعله من جلائل الأعمال، والبلد الآهلة بالسكان لا تُمَسُّ بسوء، فابنِ مدنًا. والواقع أن «خيتي» كان يقدِّر حرج مركزه؛ إذ كان يقع بين شرين؛ أهالي الجنوب في الصعيد والبدو في الشمال، ولذلك اتبع سياسة حكيمة لم تُتَحْ لابنه فرصة اقتفائها من بعده.
ولا نزاع في أن أغرب شيء في تعاليم الملك «خيتي الثالث» هو نصائحه لابنه في كيفية إدارة سكان البلاد سياسيًّا؛ إذ يقول: أما من جهة الرجل الذي له أتباع عدة وينظر إليه عبيده وخدمه بعين الحب والمودة ويتكلم كثيرًا فاقضِ عليه، واقتله، وامحُ اسمه، واقتلع ذكراه وذكرى أتباعه الذين يحبونه؛ لأن الرجل المشاغب يكون دائمًا مصدرًا للقلق بين سكان المدن، وهو الذي يخلق فريقين متنافرين بين الشباب، وإذا رأيت الشبان ينضمون إليه فما عليك إلا أن تذكر اسمه أمام رجال البلاط ثم اقضِ عليه؛ إذ هو في الواقع عدو أيضًا.
ولا نزاع في أن هذه هي السياسة الحازمة في مثل هذه الأوقات المضطربة، ولكن بكل أسف لم يكن لدي «خيتي الرابع» الفرصة ليستفيد من هذه النصائح ويجربها في الحياة، وقد كان «خيتي» يرى أن يكون رجال الحكم ممن عندهم كرامة وعفة وطهارة ذيل ويعود فيقول ناصحًا ابنه: اجعل مستشاريك عظماء حتى ينفذوا قوانينك؛ لأن الرجل الغني في بيته لا يتحيز في حكمه، وذلك لأنه مُثْرٍ فلا يحتاج إلى شيء.
ولكن الرجل الفقير لا ينطق بالحق، والحاكم الذي يقول ليت لي، لا يكون عادلًا؛ إذ ينحاز إلى من يغريه بالمال، وعظيم الرجل العظيم الذي يكون مستشاروه عظماء، وقوي ذلك الفرعون الذي له محكمة «من الطراز الصحيح». تكلم الصدق في بيتك حتى يخافك الأشراف الذين يتسلطون على البلاد، والسيد الذي له قلب سليم تصلح أحواله، وما في داخل البيت هو الذي يوحي بالرهبة في خارجه.
وكذلك نلاحظ في هذه التعاليم أن «خيتي» يرى الإله موجودًا في كل أمور الناس، وقد اتخذ ذلك أساسًا لاعتداله في الحياة فيقول: احذر أن تعاقب إنسانًا خطأ، ولا تقتلن أحدًا؛ فإن ذلك لا يجديك نفعًا، وعاقب بالضرب والسجن (من لا يمكن إصلاحه) والإله يعرف الشقي وينتقم منه بأشد العقاب (على ذلك فالعقاب المحتَّم يمكن تركه لله).
والإله يقول: إني أنا المنتقم، وسأعاقب كلًّا بذنبه، وعلى الإنسان أن يعمل كل ما يريد، على ألا ينسَ الحساب الأخير عندما يشرف «تحوت» إله الحكمة على المحاكمة، والقضاة الذين يقتصون للمظلوم يوم القيامة فإنك تعلم بأنهم ليسوا متهاونين في ذلك اليوم الذي يقضون فيه للتعس، وبخاصة عند ساعة النطق بالحكم، وكم تكون الطامة كبرى إذا كان المتهم هو الواحد الحكيم.
ولا غرابة إذا كان «خيتي» ظهر بهذا المظهر الوحشي عند تأسيس ملكه في إهناس، ولا غرابة كذلك إذا كان هذا الفرعون قد أحاط نفسه بهالة من الخوف والفزع حتى لا يقترب أحد منه أو يجرؤ على منازعته، ومما يؤسف له أن بعض أخلافه لم يكن فيهم شيء يذكر من قسوته وفظاظته، بل على العكس كانوا على جانب عظيم من التقى والصلاح كما سنرى.
وإذا كان «خيتي» الذي نحن بصدده الآن هو نفس «نب كاو رع خيتي» الذي ذكر في قصة شكاوى الفلاح، فإنه بلا شك كان يمتاز بالنكات وحب المزاح، وربما كان للمؤرخ «مانيتون» عذر في وصفه بما وصفه به؛ إذ في قصة الفلاح كان الفرعون يقصد المزاح في شدته معه، ولكن القوم كانوا يرون في ذلك شدة وعنفًا وظلمًا حقيقيًّا.
غير أن ذلك لم يحقق، بل يعده بعض المؤرخين آخر ملوك هذه الأسرة، وما يؤسف له جد الأسف أنه لا يمكننا أن نعطي رأيًا قاطعًا في ترتيب فراعنة «إهناس» خلال الأسرة التاسعة، ولكن المعترف به مؤقتًا أن خيتي الأول هو «مري إيب رع»، وقد حكم نحو ٢٢ عامًا (٢٢٤٢–٢٢٠٠ق.م) حسبما وصلت إليه معلوماتنا إلى الآن.
غير أن البلاد كانت في ارتباك ومشحانات من طرفيها، ولم يكن في مقدور فرعون إهناس أن يقبض على زمام الأمور بعزم وحزم، فكانت الدلتا كما ذكر لنا «خيتي الثالث» عندما كان ينصح ابنه «خيتي الرابع» في حال سيئة ولم يكن في مقدور «خيتي الثالث» عندما كان ينصح ابنه «خيتي الرابع» في حال سيئة.
ولم يكن في مقدور «خيتي الثالث» إلا أن يهدئ الأحوال بعض الشيء بعد جهد جهيد، وقد واتاه الحظ في الدلتا فنجح في التغلب عليها، أما في الجنوب فكان حظه عاثرًا، والواقع أن سلطان فراعنة «إهناس» كان ضئيلًا، بل منعدمًا، فيما خلف حدود مدينة «طينة» وبلدة «العرابة» المدفونة، وكذلك كان نفوذه في شمال طيبة نفسها ضعيفًا، ويرجع ذلك إلى أن الأمراء المحليين في أسيوط وإن كانوا يدينون بسلطان فراعنة «إهناس».
إلا أنهم كانوا في الواقع أعظم منهم قوة وأعز نفرًا، وكانوا يعملون جهد طاقتهم على حفظ كيان الفرعون الذي أخذ في التداعي والانهيار، وقد خلف لنا أمراء أسيوط الذين نحن بصددهم وثائق تاريخية هامة عن هذا العصر نقشوها على مقابره الضخمة، ومن بين هذه النقوش ثلاثة خاصة بالعصر الذي نتكلم عنه الآن، ومما يؤسف له أننا لم نوفق إلى الآن لترتيب هذه النقوش حسب مكانها في التاريخ.
ولكن الظاهر أن الأمير الذي كان يقال بأنه «خيتي الثاني» (كان أمراء أسيوط في هذا الحين يطلق على كل منهم اسم خيتي تيمنًا بأسماء فراعنة إهناس) هو صاحب النقش الأول، ولذلك يعتبر أول الأمراء الثلاثة، ثم تبعه «تف إيب» ثم «خيتي الثاني»، ومهما يكن من أمر فإن نقوش «خيتي الثاني» تنبئنا عن عصره بأنه كان عهد رخاء وهدوء وسكينة مما جعله فريدًا في زمن هذه الأسرة حتى ختامها.
ورغم ذلك فإن ظواهر الأحوال كانت تدلنا على أنه ذو قوة عظيمة كما نشاهد ذلك في «خيتي الثاني» أمير أسيوط، وربما كان الفرق بين الأميرين أن «خيتي» أمير أسيوط كانت تربطه رابطة شخصية بفرعون إهناس؛ إذ تربَّيا معًا في البيت الفرعوني، أما الثاني فكان لا رابطة بينهما إلا ما يوجد بين الفرعون وأحد أمراء مقاطعاته، وفي الحق أنه لم يكن هناك ما يدعو أمير طيبة للخضوع لفرعون البلاد.
ولذلك كان يتحين الفرص ليشق عليه عصا الطاعة ويعلن استقلاله، ولم يكن ذلك ليحدث إلا على يد أمير طموح، وقد حانت الفرصة فعلًا عندما تولى «أنتف العظيم» حكم طيبة، وكان توَّاقًا للمعالي والعظمة كما يشعر اسمه بذلك، وكانت طيبة في هذا العهد تشغل مكانة ضئيلة من حيث الشهرة بالنسبة لما وصلت إليه فيما بعد، فكان سكانها في درجة منحطة من حيث الثقافة إذا ما قرنت بالمدن الشمالية منها التي كانت دائمًا على اتصال بالحركة العلمية في عهد الدولة القديمة.
وكان لا بُدَّ أن تتغير هذه الحال، وفعلا بدأت في مراقي التقدم حتى وصلت إلى درجة من الحضارة لم تبلغها مدينة مصرية في كل عصور التاريخ المصري إلى أن تدهورت البلاد وضاع استقلالها، ومن المحتمل جدًّا أنه لم يمضِ طويل زمن على تولي «أنتف العظيم» حتى قامت المشاحنات بين فراعنة إهناس وبين أمراء طيبة.
وقد بدأ النزاع من جانب الفرعون كما ذكر لنا «خيتي الثالث» مظهرًا أسفه وحزنه على ما بدر منه، وإن كان كل هذا قد حدث عفوًا ولم يشعر بنتائجه حتى حلت الكارثة، وقد استقينا معلوماتنا عن هذا الحادث من تعاليم الفرعون «مري كا رع» نقلًا عن بردية تدعي ورقة «بطرس برج»، ويرجع تاريخ كتابتها إلى حوالي عام ١١١٦ق.م وهذه البردية قد وصلت إلينا منقولة عن نسخة يرجع تاريخها للأسرة الثامنة عشرة.
وقد عزى المؤرخون تأليف هذه التعاليم إلى الفرعون «خيتي الثالث»، وقد كتبها ينصح بها ابنه «خيتي الرابع» ويملي عليه تجاربه حتى تكون درسًا له، وفي هذه الوثيقة نجد إشارتين إلى سبب النزاع الذي قام بين «خيتي» ملك إهناس وأمير «طينة» الذي كان يعد من رعاياه في الظاهر، ففي الإشارة الأولى نجد «أن مصر تحارب في الجبانة وتخرب المقابر … وقد فعلت ذلك نفسي، وقد حدث ذلك فعلًا، وهذه إشارة إلى انتهاك حرمة المقابر، ولا بد أنها تشير إلى مدينة «طينة» المقدسة، ويقول عنها الفرعون: «إنني استوليت عليها بالهجوم كالصاعقة.».
وبعد ذلك بقليل يقول خيتي: «تأمل لقد حلَّت في زمني كارثة خرَّبت أحياء «طينة». وقد حدث ذلك فعلًا، وقد كنت أنا السبب، وقد أحسست بجرمي بعد أن اقترفته، وكان ذلك من سيئاتي، فاحذر ذلك؛ لأنه من عمل سيئة يجزى مثلها.» والواقع أننا لا نعلم ما جرى بالضبط؛ لأن المتن غامض، ولكن يمكن أن نقرأ بين السطور ما يأتي: كان كل من «خيتي» فرعون إهناس و«أنتف» العظيم أمير طيبة يدعي لنفسه السلطان على «طينة» و«العرابة» المدفونة التي تتاخمها.
فكان الفرعون يؤازره «تف إيب» أمير أسيوط يعتقدان أن هاتين البلدين يعدَّان حصن باب الجنوب لأملاكهما. أما «أنتف العظيم» فكان يراهما الباب المؤدي إلى الشمال لأملاك الفرعون، ومن المحتمل جدًّا أنه قد قامت بعض مشاحنات بين القابضين على إدارة تلك الجهة من كِلَا المتعاديين، مما أدَّى إلى نشوب حرب، وجعل «خيتي» يشير في تعاليمه لابنه عن هذا الحادث المؤلم. إذ كانت نتيجته أن نهبت المقابر الفرعونية المقدسة التي كانت في تلك الجهة، وقد حزن «خيتي الثالث» لإرساله الجنود الذين ارتكبوا تلك الفظائع.
وقد شعر بجرمه غير أنه لم يكن يعلم الحقيقة إلا بعد وقوعها، ولا غرابة فإن كل البلاد لا بُدَّ قد ارتاعت من تخريب الأماكن المقدسة التي كانت تعد أقدس بقعة دينية في البلاد المصرية قاطبة، وقد انتهز «أنتف» هذه الفرصة للكيد لعدوه؛ إذ حمَّله مسئولية تخريب الأماكن المقدسة ونهبها على جنوده وأعوانه، مما أشعل نار الغضب في قلوب الرأي العام ضد «خيتي» مناهضه.
ومن هذا العهد نجد أن «أنتف» أخذ يحمل لقب «حور» الفرعوني فسمى نفسه «حور واح عنخ أنتف عا»، وقد قام «أنتف العظيم» هذا بحملة نيلية في أسطول سار به شمالًا مظهرًا العصيان الصريح ضد فرعون البلاد، وكذلك لينتقم لنفسه وشرفه ودينه، ولكن محاولته هذه كان مآلها الفشل التام، وفي ذلك يقول أمير أسيوط: إن أول مرة حاربت فيها جنودي المقاطعات الجنوبية طاردوا فيها الأعداء إلى أقصى الحدود الجنوبية.
وعندما وصلت إلى المدينة هزمت العدو وأقصيته حتى حصن باب الجنوب. وقد حاول قائد «أنتف العظيم» كرة أخرى أن يغير على بلاد الفرعون فكان نصيبه الفشل التام والهزيمة المنكرة، وقد قصَّت النقوش علينا ذلك نقلا عن أمير أسيوط عضد الفرعون الأعظم؛ إذ يقول: وقد جاء آخر كأنه الفهد المفترس بجيش ثان مؤلف من أحلافه، فخرجت لملاقاته ولم أَتَوَانَ لحظة عن منازلته في سفني، وقد حاولت استخدام ريح الشمال وريح الجنوب وكذلك الريح الشرقية والريح الغربية حسب الأحوال الجوية.
وقد انتهت هذه الحرب بأن غرق العدو وسفنه في النيل، وكانت جنوده تفر كالثيران عندما تهاجمها الحيوانات الوحشية رافعة ذيولها إلى الأمام.
وتعد هذه الموقعة الأولى من نوعها في المواقع البحرية في التاريخ، ولا غرابة إذا كان أمير أسيوط يفخر بها، والواقع أن أهالي الصعيد كانوا في حاجة ماسة إلى رجل قوى الشكيمة ليصدهم ويكبح جماحهم ويذيقهم الذل والهوان، وقد قيَّض الله لهم «أنتف عا» (أنتف العظيم) في حينه، وقد كان من سوء طالع «تف إيب» وسيده فرعون إهناس أن أمير طيبة لم يخضع لهما حتى بعد أن هزم في الواقعتين السالفتين، بل سار بجيشه شمالًا كرة أخرى، وفي هذه المرة يقص علينا «أنتف عا» ما حدث بنفسه؛ إذ يقول: لقد جعلت حدودها الشمالية (أي مملكته) حتى إطفيح، وقد رسوت بسفني عند الوادي المقدس واستوليت على كل مقاطعة «طينة» وفتحت معاقلها، وجعلتها باب الشمال لأملاكي بعد أن كان «تف إيب» قد اتخذ منها حصنًا لباب الجنوب بالنسبة لأملاك فرعون إهناس.
أما «خيتي الثالث» فكان لا يزال يشعر بوخز ضميره، وكانت ترتعد فرائصه في قصره بإهناس كلما فكر في جرم انتهاك حرمة الأماكن المقدسة، وبخاصة إذا علمنا أنه كان رجل تقى وورع. ولقد ظهر أثر ذلك في تعاليمه لأبنه؛ إذ يقول: «إن الضربة تقابل بمثلها»، والواقع أنه ربما كان يظن أن «أنتف عا» قد قابل فعلة «خيتي» بمثلها واستفاد منها أيضًا، وهذا ما يقرره الواقع؛ إذ نرى أن «خيتي» قد فقد سلطانه على بلاد «أنتف العظيم»، وفي الوقت نفسه كان يشعر بالآلام نسبة لما أحاق ﺑ «طينة» و«العرابة» من التخريب والنهب.
يضاف إلى ذلك أن هذه البقاع المقدسة أصبحت مغلقة في وجهة، وكان لزامًا على كل مصري بعد موته أن يحج إلى تلك الأماكن المقدسة التي كانت تعد بمثابة طريق إلى الجنة في السماء، وقد أحزنه حرمانه ذلك ولكنه رضي الواقع، وعدَّه عقابًا من الإله على ما ارتكبه في حياته ضد هذه البقعة الطاهرة المقدسة.
ومن المدهش أن الفرعون «حور واح عنخ أنتف عا» لم يتقدم في سيره في الغزو بعد استيلائه على «طينة» و«العرابة»، وربما يعزى ذلك إلى أنه كان من الرجال العظماء الذين لا يغالون في أطماعهم، ويعرفون متى يجب أن يقفوا عند حدودهم، وقد كان صمم على أن يمحو عن نفسه عار انتهاك حرمة الأماكن المقدسة حتى بعد أن هزم دفعتين، والآن وقد واتاه الحظ وانتصر على عدوه نصرًا لم يكن يحلم به، فعقد معه صلحًا وكفَّ عن دفع الجزية التي كان يحملها سنويًّا للفرعون في إهناس، وسمح له أن يستخرج ما يلزمه من حجر الجرانيت من محاجر أسوان التي كانت ضمن المقاطعات التي تحت سلطانه، وقد رضي بذلك «خيتي الثالث»، ونصح لخلفه بأن لا يهاجم عدوًّا أقوى منه وأكثر بطشا وسلطانًا.
وقد أشار إلى ذلك مرات عدة في تعاليمه. إذ يقول: لا تخلقن أسباب عداء بينك وبين الأرض الجنوبية؛ لأنك تعلم ما تنبأ به مقر الملك من هذه الناحية، وقد يحدث ذلك كما حدث فعلا (أي هزيمة نفسه). كن لين الجانب معها لأن ذلك خير للمستقبل، كن على وئام مع الأرض الجنوبية وبذلك يأتي اليك القوم محملين الهدايا، وقد قفيت في ذلك أثر الأجداد.
ورغم أنه ليس لديها ما تقدمه لك من القمح فإنه من الخير أن تبقى وأن يظهر أهلها لك الضعف والاستكانة، واقنع بما عندك من خبز وجعة، (أي لا تحرك هؤلاء القوم ضدك للشر بجعلهم يدفعون اليك الجزية) هذا إلى أن الجرانيت الأحمر يأتي إليك دون عائق، (أي يجب عليك أن تحمد الله على هذا لأنه في يدهم).
أما في شرق الدلتا فإن الفرعون المسن كان يشعر أنها آمنة مطمئنة بعض الشيء، وما ذلك إلا بفضل الميزات الخاصة التي كان يمتاز بها العرب الرُّحَّل، وكانت هذه الصفات سليقة في نفوسهم، وما زالت منذ القدم باقية فيهم لم يطرأ عليها أي تغيير إلى يومنا هذا؛ إذ يقول: «تأمل لقد وطدت سلطاني في الشرق فصارت الحدود من «هيتو» إلى ممر «حور» معمورة بالمدن الآهلة بالسكان من صفوة رجال البلاد وخيرتها وما ذلك إلا ليصدوا غارة الآسيويين …» وقد ذكر هذا كذلك للأقوام المتبربرين: «إن الآسيوي الخاسئ أينما حل يتبعه الشقاء في الأرض التي يحل بها حيث الماء الآجن ولا يمكن المرور في أرضه بسبب كثرة أشجارها، وكذلك الطرق فإنها وعرة بسبب جبالها، وهو لا يسكن في مكان واحد، بل يرخي لساقيه العنان، ومنذ أقدم العصور فإنه يحارب ولكنه لا يهزم ولا يهزم ولا يعلن اليوم الذي سيشن الغارة فيه»، ولعمري ليس هناك وصف أدق لأهل البادية من وصف «خيتي» لهم في هذه الجمل الموجزة.
وقد هدأ «خيتي الثالث» في نصائحه روع ابنه «خيتي الرابع» من جهة قوة أهل البادية الضعيفة الأثر في إلحاق الضرر والأذى؛ إذ يقول: لا تتعبن نفسك من جهته؛ (البدوي)، فإنه لا ينهب إلا مسكنًا منعزلًا، وليس في مقدوره أن يستولي على مدينة آهلة بالسكان.
ولقد كان الجنوب في الواقع هو مصدر الخطر الذي يهدد الفرعون المسن باستمرار؛ إذ كان يعتقد أن أية ثورة تقوم ضده في مصر الجنوبية ستقضي قضاء عاجلًا على كل الأعمال العظيمة التي قام بها في الدلتا، اللهم إلا إذا اتخذ العدة في الدلتا نفسها، وقد كان فعلًا بعيد النظر من هذه الوجهة؛ إذ أقام عدة مدن محصَّنة، الغرض منها كبح جماح أي إقليم يقوم بثورة أو عصيان.
وقد كتب لابنه في نصائحه مشيرًا إلى ذلك فيقول: إذا قامت بلادك من جهة الجنوب بثورة فإن ذلك يكون حافزًا لقيام الأجانب في الشمال بحروب ضدك، فعليك إذن أن تقيم مدنًا في الدلتا، ولا يكون اسم الرجل صغيرًا بما فعله من جلائل الأعمال، والبلد الآهلة بالسكان لا تُمَسُّ بسوء، فابنِ مدنًا. والواقع أن «خيتي» كان يقدِّر حرج مركزه؛ إذ كان يقع بين شرين؛ أهالي الجنوب في الصعيد والبدو في الشمال، ولذلك اتبع سياسة حكيمة لم تُتَحْ لابنه فرصة اقتفائها من بعده.
ولا نزاع في أن أغرب شيء في تعاليم الفرعون «خيتي الثالث» هو نصائحه لابنه في كيفية إدارة سكان البلاد سياسيًّا؛ إذ يقول: أما من جهة الرجل الذي له أتباع عدة وينظر إليه عبيده وخدمه بعين الحب والمودة ويتكلم كثيرًا فاقضِ عليه، واقتله، وامحُ اسمه، واقتلع ذكراه وذكرى أتباعه الذين يحبونه؛ لأن الرجل المشاغب يكون دائمًا مصدرًا للقلق بين سكان المدن، وهو الذي يخلق فريقين متنافرين بين الشباب، وإذا رأيت الشبان ينضمون إليه فما عليك إلا أن تذكر اسمه أمام رجال البلاط ثم اقضِ عليه؛ إذ هو في الواقع عدو أيضًا.
ولا نزاع في أن هذه هي السياسة الحازمة في مثل هذه الأوقات المضطربة، ولكن بكل أسف لم يكن لدي «خيتي الرابع» الفرصة ليستفيد من هذه النصائح ويجربها في الحياة، وقد كان «خيتي» يرى أن يكون رجال الحكم ممن عندهم كرامة وعفة وطهارة ذيل ويعود فيقول ناصحًا ابنه: اجعل مستشاريك عظماء حتى ينفذوا قوانينك؛ لأن الرجل الغني في بيته لا يتحيز في حكمه، وذلك لأنه مُثْرٍ فلا يحتاج إلى شيء، ولكن الرجل الفقير لا ينطق بالحق، والحاكم الذي يقول ليت لي، لا يكون عادلًا؛ إذ ينحاز إلى من يغريه بالمال، وعظيم الرجل العظيم الذي يكون مستشاروه عظماء، وقوي ذلك الفرعون الذي له محكمة «من الطراز الصحيح». تكلم الصدق في بيتك حتى يخافك الأشراف الذين يتسلطون على البلاد، والسيد الذي له قلب سليم تصلح أحواله، وما في داخل البيت هو الذي يوحي بالرهبة في خارجه.
التعاليم الملكية
وكذلك نلاحظ في هذه التعاليم أن «خيتي» يرى الإله موجودًا في كل أمور الناس، وقد اتخذ ذلك أساسًا لاعتداله في الحياة فيقول: احذر أن تعاقب إنسانًا خطأ، ولا تقتلن أحدًا؛ فإن ذلك لا يجديك نفعًا، وعاقب بالضرب والسجن (من لا يمكن إصلاحه) والإله يعرف الشقي وينتقم منه بأشد العقاب (على ذلك فالعقاب المحتَّم يمكن تركه لله) والإله يقول: إني أنا المنتقم، وسأعاقب كلًّا بذنبه، وعلى الإنسان أن يعمل كل ما يريد، على ألا ينسَ الحساب الأخير عندما يشرف «تحوت» إله الحكمة على المحاكمة، والقضاة الذين يقتصون للمظلوم يوم القيامة فإنك تعلم بأنهم ليسوا متهاونين في ذلك اليوم الذي يقضون فيه للتعس.
وبخاصة عند ساعة النطق بالحكم، وكم تكون الطامة كبرى إذا كان المتهم هو الواحد الحكيم، ولا تعتمد على أنك ستعمر سنين عدة، فإنهم ينظرون إلى مدى حياة الإنسان كأنه ساعة زمن، ويعيش الإنسان بعد الموت وتكون أعماله بجانبه مكدسة، وسيبقى هناك أبد الآبدين، وإنه لأحمق من يستخف بهم (قضاة قاعة العدل).
أما الإنسان الذي يدخل عليهم دون أن يرتكب خطيئة فإنه سيبقى هناك كإله، ويتقدم أمامهم بخطى ثابتة إلى الأمام كإله الأبدية. هذه هي تعاليم الفرعون «مري كا رع خيتي»، وتعد من أعظم الذخائر العلمية التي عثر عليها، وبخاصة فإنها تلقي ضوءًا على مستوى الفكر الإنساني في هذا العصر وعن الفكرة التي كان ينظر بها الفرعون في طريق حكم البلاد.
ومن المحتمل أن قارئ هذه التعاليم ربما يحكم على «خيتي الثالث» بأنه كان فرعونًا مذنبًا أمام الله لانتهاكه حرمة «طينة» المقدسة، وذلك أراد أن يكفِّر عن سيئاته بالتوبة والغفران. على أنه في الواقع لم يمتز عن باقي فراعنة مصر الذين سبقوه في شيء من الأمور الدنيوية، ولكنه كان رجلًا يمتاز بأخلاقه الدينية وصلاحه، ورغم كل ذلك فإن الصورة التي رسمها لنا تعد من أحسن الصور التي تصور لنا فرعونًا، وليس لدينا ما يفوقها إلى الآن في مخلفات المصريين، وحقًّا إنها رغم نقائص مؤلفها الظاهرة تشعرنا بعد قراءتها بأننا قربنا من فهم صورة الفرعون الإنسان، لا الآلة الحكومية.
ومما يؤسف له جد الأسف أن ابنه «خيتي الرابع» لم يستفد من نصائح والده وتجاربه ولم يكن ذلك عن ضعف منه، بل لأن مركز إهناس كان مزعزعًا رغم مؤآمرة أمراء أسيوط لها، وكل ما لدينا من الوثائق التاريخية عن آخر فرعون في الأسرة التاسعة وصل إلينا من نقوش «خيتي الثاني» ابن «تف إيب» أمير أسيوط. وقد قفا هذا الأمير خطوات والده، واستمر يعضد عرش إهناس الذي كان في حاجة لكل مساعدة، ولا نعلم كيف بدأ هذا النزاع بالضبط من نقوش «خيتي»، والظاهر أن القلاقل التي قامت، كانت قد بدأت في عاصمة البلاد نفسها أي في إهناس، ثم تخطتها إلى الجهات الأخرى.
غير أن أمير أسيوط بقي في خلال ذلك على ولائه لمليكه، وسار بجيشه وأسطوله النيلي فقوي عرش البلاد الذي كان آيلا للتداعي، وكان أول عمل قام به أن أخضع الثورة التي كانت في إهناس نفسها، وبعد ذلك سار الفرعون وأمير أسيوط نحو الجنوب بجيشهما حتى الحدود، والظاهر أنهما هدَّآ الأحوال هناك مؤقتًا، ثم عاد الفرعون المنتصر وحليفه أمير أسيوط إلى الشمال، وقد كان أسطولهما العظيم يغطي النيل مسافة عدة أميال كما يرويه أمير أسيوط. إذ يقول: لقد أدَّبت مصر الوسطى وذلك طلبًا لمرضاة «الفرعون».
وأصبحت كل البلاد تدين له «كما دان له» أمراء مصر الوسطى وعظماء إهناس وإقليم سيدة الأرض (الإلهة المحلية) وهم الذين جاءوا ليكبحوا جماح المسيء، وقد كانت الأرض في ذعر واستولى الخوف على مصر الوسطى، وكان كل الأهلين في وجل والقرى في فزع، وتسرب الخوف إلى أعضائهم، أما موظفو العرش فكانوا فريسة للخوف، والمقربون ضحية للذعر في إهناس؛ (أي إن العصيان كان بين كبار رجال البلاط).
وكانت البلاد تحترق بلهيبها … ولم يحدث أن مقدمة الأسطول وصلت إلى «شطب» على حين أن مؤخرته كانت لا تزال في (؟) ولقد نزلوا بالماء ورسوا في إهناس، وجاءت المدينة فرحة مستبشرة بسيدها وابن سيدها، واختلط الرجال بالنساء والشيوخ بالأطفال.
وقد كان هذا البصيص من النجاح آخر ضوء سطع على أسرة إهناس الفرعونية، ثم تلته فترة هدوء وسكينة وطمأنينة كأنها بَرْقُ خُلَّبٍ قام في خلالها ولاة الأمور ببعض أعمال عامة في البلاد، ففي مدينة أسيوط أقيم معبد للإله «وبوات» الإله المحلي للمقاطعة؛ معناه «فاتح الطريق أو دليل الموتى» أما الملك فإنه شيَّد هرمًا له بسقارة وصنع لنفسه تمثالًا، ومن المحتمل أن أمير أسيوط قد مات في خلال تلك الفترة دون أن يرى نذير الشر الذي كان يقترب من البلاد.
إذ إن ختام نقوشه يدلنا على الثراء والخير والفلاح الذي كانت تنعم البلاد فيه فيقول: إن إله مدينتك يحبك، أنت يا «خيتي تف إيب» … ما أسعد ما حدث في وقتك، والمدينة راضية عنك، وما كان قد أخفي عن الناس فإنك قد فعلته علنًا حتى يقدم هدايا لمدينة أسيوط حسب رأيك فقط.
وكان كل موظف قائمًا في عمله، فلم يكن هناك من يحارب أو من يُفوِّق سهمًا. ولم يهن الطفل على مرأى من والدته، ولا المدني على مرأى من زوجه، ولم يكن هناك مسيء في … ولا إنسان يرتكب أي عنف في بيته، وإله مدينتك هو والدك الذي يحبك ويرشدك.
وفي خلال هذه المدة توفي «أنتف العظيم» وخلفه اثنان من الأمراء حكم كل منهما مدة قصيرة حدث في خلالها بعض قلاقل واضطرابات. ثم خلفهما فرعون يدعى «منتوحتب الثاني»، وقد جاء في نقوش له عثر عليها في «الجبلين» أنه قبض على أمراء الأرضين، وأنه المسيطر على الجنوب والشمال وعلى الأرض المرتفعة وعلى القطرين وعلى قبائل البدو التسع وعلى الأرضين، ومن ذلك نعلم أن المصيبة التي حاقت بفراعنة بيت إهناس الذين حكموا مصر في عهد الأسرتين التاسعة والعاشرة لا بُدَّ أنها حدثت في المدة التي ظهر فيها «منتوحتب الثاني» فرعونًا على عرش مصر في طيبة.
وليست لدينا معلومات عن كيفية حدوث هذا التغير، وكل ما نعلمه أن «مانيتون» ذكر لنا أن الأسرة العاشرة في إهناس كانت تتألف من ١٩ ملكا حكموا البلاد نحو ١٨٥ عامًا، وهذه معلومات لا يعتمد عليها قط؛ إذ ليس لدينا من الآثار ما يثبتها، وكل ما وصل إلينا من مخلَّفات هذه الأسرة من الآثار ثلاث جعارين باسم ملك يدعى «شنيس» ويحتمل أن يكون من فراعنة هذه الأسرة، والواقع أننا في هذه الفترة نواجه عهدًا كانت البلاد فيه منقسمة ضد نفسها، ولم يكن هناك دواء ناجع للقضاء على عللها إلا حروبًا داخلية تطهر البلاد، وتمكن بيت طيبة الناشئ الفتي من بسط نفوذه، ووضع البلاد تحت حكم سلطة قوية منظمة تسير بها نحو الفلاح والمجد.
على وعد بلقاء في حلقة جديدة من حلقات غواص في بحر الحضارة المصرية القديمة.
المصدر: مروة مصطفى