هل سبق و دخلت مكان و شعرت أنك رأيت المكان بتفاصيله مسبقا؟ بالرغم من أنك متأكد أنها المرة الأولي لك في هذا المكان!. وهل سبق ورأيت شخصا لأول مرة، وشعرت شعورا مؤكدا أنك قابلته من قبل؟، وهل سمعت حديثا شعرت أنك سمعته من قبل؟ هل تعرضت لموقف لأول مرة في حياتك ولكنك شعرت أنك تعرضت له عدت مرات؟. كلنا مررنا بهذه التجربة التي تحيرنا كثيرا، لكنها ظاهرة علمية مؤكدة تعرف باسم ظاهرة الديجا فو Deja Vu.
ظاهرة الديجا فو أو وهم سبق الرؤية
التفسير العلمي الأكثر دقة لهذه الظاهرة ربما يرجع إلى شذوذ الذاكرة حينما تعطي مشاعر خاطئة تقول للمخ بأننا عشنا هذا الموقف من قبل لكننا لا نستطيع تذكر تفاصيل الموقف «السابق» (أين، متى، كيف). عندما يمر الوقت، الشخص يستطيع استرجاع بعض التفاصيل المشوّشة في الحادثة الجديدة ولكن من المستحيل استرجاع تفاصيل الحالة الأولى (والتي كانت في بالهم عندما كانوا في الحادثة الجديدة!).
وهذا عادة ما يكون بسبب تشابك في الأعصاب المسؤولة عن الذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى. الأحداث تتخزن في الذاكرة قبل أن تذهب إلى قسم الوعي في المخ البشري وتعالج هناك. الدماغ يختزن الذكريات في منطقة عروية في وسطه تسمى الحصين hippocampus . لكن دراسة جديدة تفترض ان جزء صغير منه يسمى التلفيف المسنن dentate gyrus مسؤول عن الذكريات المتسلسلة.
أي التي تسمح لنا بالتمييز بين الاحداث والمواقف المتشابهة. في السابق، قام البروفسوران سوسومو تونيجاوا وتوماس ماكهوج من معهد ماساشوستس بجلب فئران لا تعمل منطقة الحصين لديها بكفاءة تامة وكانت النتيجة ان عجزت الجرذان عن التمييز بين موقفين متشابهين. ويقول تونيجاوا: “ان الأمر لا يدعو إلى الاستغراب عندما تدرك ان خلايا التلفيف المسنن تتعرض للتلف”.
هنالك أيضا تفسير علمي آخر لهذة الظاهرة التي تسمي ظاهرة الديجا فو وهذا التفسير يتعلق بحاسة النظر. النظرية تقول بأن إحدى العينان تسجل الحادثة أسرع قليلاً عن العين الأخرى، فبعد لحظات قصيرة عندما تقع الحادثة، يُخيل لنا بأننا رأينا هذا الموقف من قبل! لكن من عيوب هذه النظرية أنها لا تقدم تفسير لتداخل الحواس الأخرى في الحادثة.
كالسمع واللمس (كأن نشعر بأن أحداً من قبل ضرب يدنا اليسرى). وأيضا من عيوب هذه النظرية بأن ظاهرة الديجا فو حدثت عند أُناس لا يرون إلا بعين واحدة (أعور). على كل حال هذه الظاهرة يمكن تفسيرها عمومًا بقول أن هناك عدم توافق زمني في تسجيل الأحداث في نصفي الدماغ الأيمن والأيسر.
إذن تعد ظاهرة الديجا فو ظاهرة نفسية بديهية أو حدسية شائعة تحدث لكثير منا، وهي ظاهرة منتشرة نسبياً بين الذكور والإناث على حد سواء. والجدير بالذكر أنه لا يوجد دليل قاطع على مدى شيوع هذه الظاهرة على أرض الواقع، لكن يوجد عدة تقديرات مختلفة تشير إلى أن ما بين 60 و 80 % من السكان يعانون من هذه الظاهرة.
الذاكرة الكاذبة
لمحاولة فهم تأثير الذاكرة الكاذبة على ظاهرة الديجا فو، في احدى الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي قامت على 300 شخص كانوا متهمين وتم إثبات برائتهم عن طريق فحص الحمض النووي لهم، ومنهم من قضى أكثر من 30 عاما في السجن، وخلصت الدراسة إلى أن 75 في المئة من هذه الحالات كانت بسبب ذكرى خاطئة أو ما يسمى بالذاكرة الكاذبة، وما حدث لا يخرج عن كونه تشوه للذاكرة، فماذا حدث.
تعاونت اليزابيث فيشمان وهي واحدة من خبراء الذاكرة مع زميل لها يدعى جون بالمر، وكانت اليزابيث تدرس تأثير اللغة على الذاكرة الخاطئة، وكانت التجربة ترتكز على فيديوهات لحوادث وتجعل بعض الأشخاص يشاهدون هذه الفيديوهات، وبعد فترة تسألهم عن تفاصيل هذه الحوادث. في إحدى التجارب كان الفيديو المعروض عن حادث سيارة، وكان السؤال لهؤلاء الأشخاص متغير عن الحادث حتى يدركوا ما مدى تأثير شكل السؤال على الذاكرة بعد فترة.
وكان السؤال يتغير كل مرة بلفظ أعنف من الأخر، مثل: ما هي سرعة السيارة عندما اصطدمت بالأخرى، والسؤال الثاني ما هي سرعة السيارة عندما تحطموا جراء الحادث، وكان وقع السؤال الأعنف أكثر تأثيرا على الأشخاص وبطبيعة الحال اختلف الجواب في الحالتين.
من هنا وجد أن طريقة تناول السؤال تؤثر على الذاكرة، من ثم حدث تشويه لشكل الحادث في ذاكرة هؤلاء الأشخاص، ما يثبت أن الذاكرة مثل الصفحة على الانترنت تتغير المعلومات بها من وقت لأخر، لذلك لا يعتمد على الذاكرة 100 بالمئة، كما ترتبط الذاكرة بالصور المزيفة بالرغم من معرفة من يشاهدها بأنها مفبركة وليست صحيحة.
من ناحية أخرى، قد ترتبط الذاكرة بمعلومات غير صحيحة تؤدي إلى تشوه الذاكرة، فعندما تسرد لشخص واقعة غير حقيقية وتحاول ترسيخها في ذاكرته، وخلصت التجارب أن 25 في المئة من الحالات تفاعلت بشكل كبير مع هذه التفاصيل، بل الأكثر غرابة هو سرد هؤلاء الأشخاص لتفاصيل جديدة عن هذه الواقعة لم يعيشوها. من هنا تأتي النقطة المهمة وهي أن هنالك أشخاص قد يعترفون بجرائم لم يقترفوها قط، وهنا تكمن المشكلة.
يعتمد التكنيك المتبع في مثل هذه الأمور، على مواجهة الشخص بجرم لم يرتكبه على عدة مراحل أولها الإنكار، فالشخص ينكر بكل قوته لأنه بالفعل لم يفعل شيء، لكن عندما يتم مواجهة هذا الشخص بشخص أخر يؤكد ارتكاب الأول للجريمة. وبالفعل اعترف الكثيرون ممن خضعوا لهذه الدراسات بارتكابهم للجرائم بالرغم من برائتهم المؤكدة.
ليس ذلك فحسب، بل شعر بعض الأشخاص البريئة بالذنب حيال ما اقترفته أيديهم، وبدأوا في سرد مواقف عن هذه الجرائم تتناسب مع هذا الاعتقاد الخاطئ. الأمر الذي يؤكد أن أجهزة المخابرات والشرطة قد تنجح بهذه الطريقة في إقناع بعض الأشخاص بارتكابهم للجرائم بالرغم من برائتهم منها.
العلاقة بين الديجا فو والذاكرة الكاذبة
كان يعتقد سابقًا أن ظاهرة الديجا فو ناتجة عن صنع الدماغ لذكرياتٍ خاطئة (أي أنه يختلق ذكرياتٍ كاذبة)، ولكن البحث الذي قام به أكيرا أوكونور Akira O’Connor وفريقه في جامعة سينت أندروز في المملكة المتحدة، يشير إلى أن هذا غير صحيح. بقيت آلية عمل ظاهرة الديجا فو لغزًا لفترةٍ طويلة، ويرجع ذلك جزئيًا لطبيعتها العابرة وغير المتوقعة، والتي تجعل من الصعب دراستها. وضع أوكونور وزملاؤه -بهدف تجاوز الصعوبة السابقة- وسيلةً لتحريض إحساس الشخص بظاهرة الديجا فو في المختبر.
تستخدم تقنية الفريق طريقةً موحدةً لتحريض ذكرياتٍ كاذبة كما سبق وأشرنا، وتنطوي على سرد قائمةٍ من الكلمات التي توجد بينها صلة ما أمام الشخص -مثل سرير ووسادة وليلة وحلم- ولكن بدون قول الكلمة الرئيسة التي تربط بينها، وهي في هذه الحالة النوم.
عندما سئل الأشخاص في وقتٍ لاحقٍ عن الكلمات التي سمعوها، فإنهم مالوا إلى الاعتقاد أنهم سمعوا أيضًا “النوم” وهي هنا ذاكرة كاذبة. لخلق شعور الديجا فو، سأل فريق أوكونور الأشخاص أولًا فيما إذا كانوا قد سمعوا أي كلمة تبدأ بالحرف “ن”. وأجاب المتطوعون أنهم لم يسمعوا ذلك.
وهذا يعني أنهم عندما سُئلوا في وقتٍ لاحقٍ إذا كانوا قد سمعوا كلمة “نوم”، كانوا قادرين على تذكر أنهم لا يمكن أن يكونوا قد سمعوها (كونهم لم يسمعوا كلمة تبدأ بحرف النون)، ولكن في الوقت نفسه، شعروا أن الكلمة مألوفة. وهنا يعلق أوكونور: “لقد أخبرونا عندها أنهم قد مروا بتجربة الديجا فو أو ظاهرة الديجا فو”.
التفسير المنطقي للظاهرة
بالنسبة لتفسير ظاهرة الديجا فو فهناك 30 تفسير للظاهرة حسب معتقدات الشعوب و الثقافات!، لكن يبقى أكثر تفسير منطقي لظاهرة الديجا فو هو النتيجة التي توصلت لها الدراسة الأمريكية من قبل أطباء النفس والأعصاب، بأنها الذاكرة التي تتكون نتيجة ذكريات أخرى مشابهة. وهذه الظاهرة لها علاقة بذاكرة التعرف مثل أن تتعرف على صديق في الشارع أو تسمع أغنية في الراديو على سبيل المثال.
لذلك، إذا شعرت بظاهرة الديجا فو عند المشاهدة المسبقة، فالواقع أنك قد تكون قرأت من قبل أو سمعت وصف مشابه والدماغ لديك ترجم ذلك لأنك شاهدته قبل. على سبيل المثال، قد تكون بالفعل شاهدت من قبل مبني هندسي مشابه يوجد به مائدة مستديرة على اليسار، ولوحة مستطيلة الشكل على اليمين، فيخدعك عقلك أنك زرت هذا المكان من قبل.
رأي علماء الدين
يؤكد علماء الدين على أننا عشنا حياة قبل تلك التي نعيشها تسمى حياة الروح، ما يفسر ترسيخ بعض الأحداث أو الأماكن التي تم زيارتها من قبل في عالم الروح في الذاكرة، ولكن أغلب علماء الدين رفضوا هذا التفسير وأرجعوا السبب إلى علم النفس كما سبق وذكرنا.